في أكتوبر من عام 1984، حضرت العشاء الذي نظمته «المؤسسة الأميركية الإيطالية الوطنية» وأصغيت لخطابات الحملة الانتخابية التي ألقاها كل من الرئيس رونالد ريجان ونائبه والتر ماندال. ومع أن النائب كان أول المتحدثين أمام الجمهور، إلا أن خطابه خلا من الجديد، وظلت القاعة على هدوئها دون تصفيق إلى أن اعتلى ريجان المنصة وبدأ خطابه، فبعد برهة من الصمت شرع الرئيس في إلقاء الخطاب وما زلت أتذكر كلماته التي قال فيها «لقد جاءت جدتي كما جداتكم إلى هذا البلد وهي لا تحمل شيئاً عدا آمالها وأحلامها، وقد عملت بجد تحركها في ذلك قناعة راسخة بأنها لو كدحت في أميركا فإن أحلامها ستتحول إلى واقع، وإذا كنت أقف أمامكم اليوم فذلك لأني استفدت من عملها الشاق ومن أحلامها التي تحققت»، حينها تبللت العيون في القاعة بالدمع وأدركت شخصياً أن ريجان كسب لتوه أصوات الإيطاليين، لكني كعضو شاب في الحزب «الديمقراطي»، انزعجت قليلاً، لأن ما قاله ريجان عن موضوع الهجرة وانفتاحه الكبير على قضاياهم كان دائماً أحد القناعات الأساسية للحزب «الديمقراطي».
فلعقود طويلة تشكلت قاعدة الحزب من المهاجرين المتحدرين من عرقيات مختلفة ممن استقروا في المدن، لذا كان من الخطأ التخلي عن مواقف الحزب المتسامحة تجاه المهاجرين لصالح الحزب «الجمهوري»، ليحصد من خلالها الأصوات.
هذه القصة التي استدعيتها من الماضي تأتي في سياق النقاش الدائر حالياً بشأن الإصلاح الشامل لقانون الهجرة، فبعد المرور من مجلس الشيوخ ينتظر مشروع قانون الهجرة مجلس النواب للبت فيه، لكن ومن خلال متابعة الخطاب حول الهجرة سواء الصادر من المدافعين عن قانون تقدمي، أو ما يدور في المنابر الإعلامية لا أجد ما يبعث على الرضى، لا سيما في ظل صياغة النقاش وكأن الموضوع محصور في المهاجرين اللاتينين.
فـ«الديمقراطيون» يتحدثون بتشف عن محنة «الجمهوريين»، الذين يتعين عليهم الدفاع عن قانون متطور، إنْ هم أرادوا الحفاظ على الأصوات في الولايات ذات الحضور اللاتيني الكثيف، فيما يرى بعض «الجمهوريين» أنها فرصتهم لاستمالة أصوات الناخبين اللاتين وقطع الطريق أمام «الديمقراطيين» الذين استفادوا تقليدياً من أصواتهم.
والأكثر من ذلك، وفي مثال آخر على حصر نقاش الهجرة في الموضوع اللاتيني، عرضت محطة «سي. إن. إن» برنامجاً يتحدث عن الدور الذي يلعبه الصوت اللاتيني في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، مشيراً إلى أنه في الوقت الذي يحظى فيه الصوت اللاتيني بأهمية قصوى على الصعيد الوطني، وفي عدد من الولايات، فإن أغلب المشرعين «الجمهوريين» ينحدرون من دوائر انتخابية تنعدم فيها أصوات اللاتين، وبالتالي هم بمنأى عن أي ضغوط، أو تأثيرات بشأن قانون الهجرة.
وفيما تتصاعد الضغوط على الكونجرس للبت في قانون الهجرة، يتسابق أعضاء مجلس النواب الذين ينحدرون من دوائر انتخابية يغلب عليها الطابع اللاتيني، أو تلك التي تتواجد فيها شركات تستفيد من اليد العاملة المهاجرة، لممارسة التأثير وتمرير قانون يخدم مصالحهم.
لكن كل هذا النقاش الذي يكتفي بالحديث عن الهجرة من منظور لاتيني لا يرى فيها إلا حسابات الربح والخسارة في الانتخابات ومنطق الأصوات يجافي الصواب، فكما يشير إلى ذلك السيناتور «جيم روزابيبي» من أصول إيطالية، والعضو السابق في مجلس النواب «بروس موريسون» من أصول إيرلندية ليست الهجرة موضوعاً لاتينياً بقدر ما هي موضوع أميركي.
فلو أن موضوع الهجرة تم حصره، كما قال «موريسون»، في مسألة المهاجرين غير الشرعيين الذين يطرقون أبواب أميركا مطالبين بالسماح لهم بالدخول، فإن احتمال تمرير قانون متقدم تظل ضئيلة، لكن إذا صيغ الموضوع على أن الأمر يتعلق مرة أخرى بأميركا التي ترحب بالمهاجرين، مشرعة أبوابها أمام المهاجرين الجدد كما فعلت مع القدامى، فإن القانون سيكون له جاذبية أكبر وفرص أوفر للنجاح، لكن بعض الدوائر المعارضة لقانون الهجرة تفضل التركيز على مسألة المهاجرين غير الشرعيين كما لو أنهم فقط من اللاتين، متحدثين عنهم بصورة قدحية وباعتبارهم «منتهكين للقانون»، وغير قابلين للاستيعاب والاندماج في المجتمع الأميركي، ناهيك عن إضرارهم بالاقتصاد، وبالطبع تندرج هذه الأوصاف والنعوت في سياق المحاولات الجارية لقولبة المهاجرين وتهميشهم والإيغال في شيطنتهم، والحقيقة أن هذا الموقف خاطئ على أكثر من صعيد، فأولًا ليس أمراً جديداً وجود مهاجرين غير شرعيين في أميركا، ولا هم ينحصرون في جماعة إثنية بعينها.
فحسب الإحصاءات يحتل الأوروبيون المرتبة الثامنة في عدد المهاجرين غير الشرعيين، وثانياً أن ما يروج عن المهاجرين باعتبارهم «لا يجتهدون» و«لا يندمجون في نسيح المجتمع»، أو «يلحقون الضرر بالاقتصاد»، وهو ما كان يقال في السابق عن الإيطاليين والإيرلنديين والمهاجرين من أوروبا الشرقية والوسطى، ليس صحيحاً، والمفارقة أن دراسة قام بها الباحث «جيفري كين» لصالح مركز سياسات الهجرة حول التصريحات المتعصبة، التي أدلى بها سياسيون في مدينة «هازلتون» في ولاية بنسلفانيا أوضحت أنها الصورة نفسها النمطية التي كانت سائدة عن المهاجرين في السابق، الذين ينحدر منهم هؤلاء السياسيون.
لكي يؤتي خطاب الهجرة أكله، لذا لا بد من إعادة صياغته ليشمل مجمل تجربة الهجرة الأميركية، ويشرك كافة العرقيات بمن فيهم الأميركيون البيض، فأغلب السكان في ولايات مثل بنسلفانيا وأوهايو وميشيغن وويسكونسن هم من المهاجرين القادمين من أوروبا ودول البحر الأبيض المتوسط، وبالنسبة لهم ليست الهجرة موضوعاً لاتينياً فقط، بل هي موضوعهم أيضاً وقصتهم، التي تروي تجربتهم الأميركية.
Leave a Reply