بهدوء وسلام أغلقت الاعلامية الأسطورة اللبنانية الأصل، هيلين توماس عينيها الى الأبد في العشرين من تموز (يوليو) الحالي داخل شقتها السكنية التي لا تبعد كثيرا عن البيت الابيض في واشنطن العاصمة والذي شهد صوتها وجولاتها الصحافية كمراسلة في مركز صنع القرارات العالمية، لوكالة «يونايتدبرس انترناشونال» ولاحقاً لسلسلة صحف «هيرست».
وهكذا انتهت مسيرة طويلة وحياة مديدة زاخرة بالعطاء ناضلت خلالها هيلين بالكلمة وختمتها بسلاح الموقف حول عدالة القضية الفلسطينية بجرأة نادرة عندما دعت المحتلين اليهود الى العودة الى بلدانهم في بولندا والمانيا وغيرها، وإنهاء احتلالهم واضطهادهم لأبناء فلسطين الأصليين.
لقد كانت هيلين رائدة من رواد العمل الصحفي منذ أن بدأت مهنة «البحث عن المتاعب» في الأربعينيات كفتاة شابة إخترقت عالم الاعلام الذي كان يقتصر على الرجال فقط فتخطت القيود الإدارية والمهنية التي كانت تقف في وجه المساواة في الوظيفة مع الذكور، كما ذكر بيان صادر عن عائلة هيلين إثر إعلان وفاتها.
وأضاف بيان العائلة «إن هيلين وصلت الى ذروة مهنتها ومهّدت الطريق أمام الجيل المقبل من النساء وتركت لهن مثالاً رائعاً ليحتذن حذوه، وكل ذلك بفضل مواظبتها واستقامتها واستعدادها لمتابعة أية قصة اخبارية والعمل في أي وقت من الليل أو النهار».
هذا الثبات والاستمرارية أطلقا العنان لمهنتها الاعلامية فعمّت شهرتها الآفاق وتفوقت على الاعلاميين الرجال في البيت الابيض وقدمت النموذج والإلهام لأجيالٍ من الاعلاميات الطموحات في هذا البلد.
وقد قامت هيلين توماس بتغطية نشاط البيت الابيض والرئاسة الأميركية منذ الرئيس دوايت ايزنهاور مرورا بالرئيس جون كينيدي وحتى الرئيس الحالي باراك أوباما، ويتضمن انجازها الكتابي اصدار خمسة كتب وكونها أول امرأة تصبح عضواً في «نادي الصحافة الوطني» وفي نقابة «مراسلي البيت الابيض» و«نادي غريديرون»، خوّلها لأن تتفوق على أقرانها في عقر دارهم الاعلامي.
واشتهرت توماس باستجوابها القاسي للرؤساء الاميركيين وغيرهم من المسؤولين في وقت كان يحجم فيه الاعلاميون الباقون عن توجيه أسئلة محرجة لم تخجل توماس من الخوض في القضايا المثيرة للجدل أو التعبير عن وجهات نظرها التي قد لا تكون محبذة شعبياً.
ابنة شقيقة توماس الصحافية سوزان جحا قالت لـ«صدى الوطن»: إنها ستحمل دائماً طيف هيلين توماس لأنها «إلهام لي» وهي ستبقى النبراس والقدوة التي فتحت لي باب الصحافة الاذاعية». كذلك عبّرت المنتجة التلفزيونية ومقدمة البرامج سهام عواضة جعفر عن نفس المعنى.
وكتعبير عن الإحترام الشديد لشخصها حظيت هيلين توماس باحتلال المقعد الامامي في كل المؤتمرات الصحافية الرئاسية ولكن خلال رئاسة جورج بوش رجع مقعدها الى الخلف وعندما سئِلت عن ذلك في إحدى المرات كان ردّها: «لم يحبوني لأني أسأل اسئلة فظة كثيرة». وعرف عن الصحافية القديرة ختمها للمؤتمرات الصحافية الرئاسية بعبارة أصبحت مألوفة تقول «شكراً لك أيها السيد الرئيس».
لقد كرّست هيلين اغلبية سيرتها المهنية الممتدة 70 عاماً من أجل سيادة الحق العام في المعرفة وكانت السبّاقة في الدفاع عن «التعديل الدستوري الأول» المتعلق بحرية الرأي والاعلام. وطيلة الاعوام التي احتلت فيها المقعد الامامي في البيت الابيض، اعتبرت هذا المقعد ملكاً للشعب في بيت الشعب. وعن هذا الموضوع ذكرت ابنة شقيقتها أن خالتها أحسّت بالمسؤولية للحصول على أجوبة نيابة عن الرأي العام كله لأن الناس لا يملكون فرصة للوصول إلى قلب الحدث.
كما تطرق بيان العائلة الى اقرار هيلين بشرف كونها العيون والآذان للرأي العام وإنها بكل جرأة ومن دون وجل كانت تطرح أسئلة لمساءلة القادة السياسيين ومحاسبتهم.
تصريحات مثيرة للجدل
في العام 2010 أعلنت هيلين عن تقاعدها من سلسلة صحف «هيرست» بسبب اطلاقها لتصريحات مثيرة للجدل حول اسرائيل واليهود وفلسطين. وبالرغم من اعتذارها لاحقاً، إلا أن اللوبي الاسرائيلي حاول إزالة تمثال لها من «المتحف الوطني العربي الاميركي» في مدينة ديربورن لكن المحاولة باءت بالفشل.
وبعد ذلك، استمرت هيلين باطلاق المزيد من التصريحات المثيرة للجدل ففي ندوة حول الانحياز ضد العرب أقيمت في «قاعة بيبلوس للحفلات» اعلنت ان «الكونغرس والبيت الابيض وهوليوود وول ستريت كلها مملوكة من الصهيونية من دون ادنى شك».
وعلى أثر شيوع هذا التصريح قامت جامعة «وين ستايت» بإلغاء «جائزة هيلين توماس لتخليد روح التعددية» كما الغت جمعية «الصحافيين المحترفين جائزة إنتاج العمر» التي أنشئت بإسمها.
وصودف أن ناشر «صدى الوطن» الزميل أسامة السبلاني كان آخر الحائزين على جائزة «هيلين توماس لتخليد الروح التعددية» كونه من الاعلاميين العرب الطليعيين وعضواً مؤسساً في «كونغرس المؤسسات العربية الاميركية». وفور اعلان «وين ستايت» عن الغاء الجائزة بادر «الكونغرس العربي الاميركي» الى اللقاء مع مسؤولي الجامعة من أجل مناقشة قرارهم بالغاء الجائزة، وحذّر «الكونغرس» وقتها إدارة الجامعة من أن القرار الاعتباطي الذي اتخذته إذا لم يُصحّح فإن تبعاته السلبية ستؤثر على الجامعة والجالية العربية الاميركية لسنوات طويلة.
وكان قرارا «وين ستايت» و«جمعية الصحافيين المحترفين» قد أثارا زوبعة من رد الفعل الغاضب بين الجماعات والافراد في كل انحاء الولايات المتحدة حيث دعا المحتجون الى العودة عن قراري الالغاء لانهما اعتداء صارخ على حرية الرأي والقول وتقويض لمبادىء الصحافة الاساسية. كذلك قامت منظمات شبابية ومدنية بجملة تظاهرات من أجل حمل المؤسستين على التراجع عن قرارهما الجائر.
وحول الموضوع ذكرت «سهام جعفر»: إنها تحدثت إلى توماس بعد قرار الإلغاء الحاصل، فكان رد فعلها: «لا يمكن لأحد أن يأخذ منك أي شيء طالما تقفين على أرض صلبة وتحافظين على موقفك المستقيم».
كما لم تثنِ مسألة الغاء الجائزتين عزم هيلين عن المضي قدما في إعلان مواقفها بكل جرأة والتعبير بصراحة عن مكنوناتها واعتقاداتها، ففي حفل اقيم في «مكتب فلسطين الثقافي» في أيار (مايو) 2011، نالت توماس جائزة «الشجاعة المستمرة بلا هوادة» بسبب مثابرتها وحرصها على قول الحقيقة. وقد ألقت يومها كلمة دعم لحقوق الشعب الفلسطيني وظهرت وهي ترتدي على معصمها بكل فخر اسوارة مكتوب عليها اسم فلسطين.
وفي نفس الحفل وجهت «صدى الوطن» سؤالا الى توماس حول ما اذا كانت تود أن تسحب تصريحها حول اسرائيل فأجابت: «لا أبداً، أنا قلت الحق وأنا لا اؤمن بالظلم البشري وهذا بالضبط ما يحدث في فلسطين».
وعندما سألتها «صدى الوطن» سؤالا آخر حول ما إذا كانت تأسف لعدم حضور حفل «وين ستايت» السنوي لتوزيع جوائز «روح التعددية» والذي عقد في نفس اليوم أجابت توماس «أنا لست منزعجة، لكن هذا يجب ان يزعجهم هم لانهم انكروا حق الاميركيين في التعبير عن رأيهم وهذا عار على أي جامعة أكاديمية».
كانت هيلين تعبّر طيلة مسيرتها عن فخرها دوما بأصولها وجذورها العربية وكانت واثقة جداً من هويتها، حسب ما قالت سهام جعفر.
وحول أصولها العربية عقّب مدير «المتحف الوطني العربي الاميركي» ديفان أكمون قائلاً «إن حياة هيلين هي قصة نجاح اميركية باهرة وتعبير واضح عن الحلم الاميركي»، وأضاف أكمون: أن «أبويها قاما بمجازفة الهجرة وسعيا وراء الفرص المطروحة من أجلها ومن أجل أبنائهما وربّيا هيلين لتكون مستقلة وتكون من المحققين لأهدافهما بلا كلل وكامرأة لم تسمح لجنسها أو خلفيتها العرقية ولاحقا عمرها، من وضع قيود أو حدود على أهدافها وطموحها بأية طريقة».
وتعليقا على وفاة توماس قال الرئيس أوباما « إن السبب الذي جعل توماس عميدة السلك الصحافي في البيت الابيض لم يكن لطول المدة التي خدمتها كإعلامية ولكن لاعتقادها الراسخ أن ديمقراطيتنا تعمل بأفضل حال عندما تطرح أسئلة قاسية وتخضع قادتنا للمحاسبة».
المعروف ان توماس تزوجت من دوغلاس كورنيل وكان مراسلا في البيت الابيض لوكالة «اسوشيتد برس» وتوفي في العام 1982. تخرجت هيلين من جامعة «وين ستايت» عام 1942 وهي إحدى أبرز مشاهير جمعية الخريجين، لديها ثلاث شقيقات والعديد من أبناء وبنات الأخت والأعمام، ومن المقرر نقل جثمان هيلين الى ديترويت حيث ستوارى الثرى، وذكرت المصادر المقربة ان تأبيناً سيقام لها في شهر آب (أغسطس) المقبل كما تقام ذكرى عن روحها في واشنطن العاصمة في شهر تشرين الاول (اكتوبر).
الصحافية سوزان جحا ابنة شقيقتها سُئلت عن وصية هيلين توماس إلى الجيل الصاعد الطامح لدخول عالم الاعلام فقالت «وصيتها لهم أن لا تخافوا وتحلّوا بالشجاعة، أنتم لا تسعون للحصول على جائزة ملوك وملكات الجمال، بل أنتم نواب عن الرأي العام، مهمتكم أن تبقوا الناس مطلعين على كل ما يجري حولنا».
اسرة «صدى الوطن» التي تفخر بحصول ناشرها على آخر جائزة اعلامية تقديرية مخصصة بإسمها قبل أن تلغيها ادارة «وين ستايت» تتقدم بأحرّ التعازي بخسارة قائدة اعلامية طليعية شجاعة، هذه الخسارة التي لا تعوض، وتدعو ادارة جامعة «وين ستايت» و«جمعية الصحافيين المحترفين» الى اعادة الجائزتين المكرستين باسمها ومقاومة ضغوط اللوبي الاسرائيلي الذي ادّى الى الغائهما في الاصل لان التاريخ سوف يذكر هيلين توماس بأحرف من نور وسيعيب كل من وقف في وجه حرية الانسان في التعبير والرأي التي كانت هيلين توماس واحدةًمن دُعَاتِها.
Leave a Reply