بات النزوح السوري القسري بسبب الحرب، والتلقائي بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، يثقل الوضع الداخلي اللبناني، فتزيد أزمة النازحين السوريين أزمة جديدة على أزماته المتفاقمة من استقالة حكومة، وتعثر تشكيل أخرى، إلى التمديد لمجلس النواب وما رافقه من تجاذبات حول قانون الانتخاب إلى موضوع الفراغ في مؤسسات الدولة، لاسيما منها الأمنية والعسكرية، إلى الانهيار الاقتصادي الذي بدأ يلحق بالقطاعات كافة، لا سيما السياحية، وكل ذلك بسبب الانقسام السياسي الحاد والعامودي بين مكونات المجتمع اللبناني الذي يبدأ بالخلاف على النظام السياسي، ثم على المقاومة وسلاحها، وعلى الاستراتجية الوطنية الدفاعية وعلى الأحداث الدائرة في سوريا ومشاركة الأطراف اللبنانية فيها، عبر تأييد فريق للنظام وآخر للمعارضة بكل أطيافها وتلويناتها.
هذا الوضع المتأزم سياسياً ينذر بأن ينفجر أمنياً وبشكل واسع، وهو ما بدأ مع مسلسل التفجيرات المتنقلة والمعارك العسكرية المحدودة في أكثر من منطقة، مترافقاً مع خطاب سياسي متشنج يعبر منه التحريض الطائفي والمذهبي وبات الحديث عن صراع سني–شيعي متداولاً وكأنه أمر طبيعي لا يؤدي إلى فتنة واقتتال وحرب مدمرة وهو انعكاس لحروب خارجية عربية واقليمية ودولية يتأثر بها لبنان لارتباط قوى سياسية فيه وأخرى دينية بمحاور ودول خارجية لم ينفع «إعلان بعبدا»، بإبعاد لبنان عنها، وتحييده عن صراعاتها الممتدة من شمال إفريقيا إلى شرق آسيا مروراً بالشرق الأدنى والأوسط.
مع تراكم هذه الأزمات وحروب الآخرين على أرضه، تطل أزمة خطيرة على لبنان كانت مستورة لأسباب انسانية وقومية ودينية، فإذا بها تصبح خطراً داهماً على الأمن السياسي والاجتماعي والعسكري الميداني كما على الوضع الديمغرافي للسكان، في بلد متنوع الانتماءات الطائفية والمذهبية والتوزع الجغرافي مما يؤثر على التركيبة المجتمعية، إذ أن العدد هو ما يحكم الواقع اللبناني منذ احصاء 1932 للسكان، وفي لعبة الأكثرية الطائفية التي تحكم والاقلية الأخرى التي تتبع أو تشارك بالتتابع، حيث رسم الكيان اللبناني للموارنة كدولة لهم فيها امتيازات سياسية كونهم يشكلون الأكثرية عن الطوائف الاسلامية، وداخل المذاهب المسيحية، وهو ما عرفته كل الدول التي دخلت في لعبة الأكثريات والأقليات الطائفية والمذهبية والعرقية، وحصلت بسببها الحروب وهي مازالت مستمرة وماثلة في أكثر من مشهد عربي ودولي.
والنزوح السوري تم التعاطي معه في بداياته على أنه حالة مؤقتة، تنتهي مع السقوط السريع للنظام السوري الذي لن يكون مصيره مختلفاً عما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن، وأن الرئيس بشار الأسد لن يصمد في موقعه، ولن تدوم المواجهة بينه وبين المعارضة سوى أسابيع ويتنحى عن الحكم أو يحاكم أو يفر من البلاد إلى دولة صديقة.
هذه الاحتمالات والرهانات والسيناريوهات كلها وضعت ورسمت وثم تحديد مواعيد لها، منذ أن بدأت الأزمة في نهاية آذار من العام 2011، ولم يكن المخططون للمؤامرة على سوريا يدرون أنها مختلفة عن باقي الدول التي شهدت حراكاً شعبياً، بسبب موقعها الجيوسياسي، ثم حضورها القوي في الصراع العربي–الاسرائيلي، وفي دعمها واحتضانها للمقاومة في لبنان وفلسطين ضد الاحتلال الاسرائيلي وحتى في العراق ضد الاحتلال الأميركي اضافة إلى أنها تقيم تحالفات اقليمية مع إيران ودولية مع روسيا والصين وهي بذلك محور صراع استراتيجي بين محورين ايراني– روسي–صيني، مقابل محور أميركي-اسرائيلي-عربي (خليجي)-أوروبي، وأصبح الصراع على سوريا وهو يمتد إلى عقود لا بل قرون، بسبب الجغرافيا السياسية أولاً، ثم حديثاً ممراً للنفط والغاز منه عبر أراضيها إلى أوروبا، سواء من دول خليجية أو روسيا.
لذلك من خطط للحرب على سوريا واسقاط نظامها وجذبها إلى محور غير محورها الحالي المقاوم والممانع لم يلحظ إلى تلك العوامل المحيطة بأزمتها أن الشعب السوري وإن كان غاضباً من النظام للفساد الذي وقع فيه بعض من في السلطة، ولطغيان الأمن على السياسة، ولمطالب محقة تتعلق بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم البطالة لاسيما في الريف السوري، إلا أن السوريين بأكثريتهم وقفوا إلى جانب الدولة السورية وأيدوا اصلاحات النظام التي طرحها وقوننها واصدار قوانين الأحزاب والاعلام والغاء حالة الطوارئ كما وقف العمل بالمادة الثامنة من الدستور التي أعطت لحزب «البعث العربي الاشتراكي» حصرية قيادة الدولة والمجتمع دون غيره من الكيانات السياسية والحزبية في سوريا. بعد أن أظهرت الأحدات إن الدعوة إلى الاصلاح التي كانت شعارات محقة لسوريين باتت وسيلة للإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة والحكم منفردين بدعم أمريكي وغطاء أوروبي تحت عنوان وصول الاسلام المعتدل إلى الحكم وفق التجربة التركية مع حزب «العدالة والتنمية» الذي استنسخ في مصر بإسم حزب «الحرية والعدالة» وحركة «النهضة» في تونس وهو ما أخر الحل السياسي للأزمة السورية مع إصرار تركيا وقطر على وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في سوريا وهذا ما رفضه أكثر من نصف الشعب السوري الذي رأى ما حل بمصر وتونس وليبيا واليمن والمغرب مع تسلم الاسلاميين للحكم وظهور سلفيين جهاديين ومحاولة تغيير المجتمعات التي تسلموا مقاليدها وإعادتها إلى مرحلة ما قبل الدولة إلى دول الطوائف والمذاهب والقبائل وتجهيل المجتمع وزيادة تخلفه بدلاً من تحديثه وتطويره وتقدمه مما أطال أمد الأزمة السورية ودخولها مرحلة العسكرة مع لجوء المعارضين إلى استخدام السلاح بوجه ما وصفوه «عنف النظام»، فإن الشعب السوري بدأ يئن من الوضع المأساوي الذي وصل إليه بسبب ما أصاب المدن والبلدات والبنية التحتية من تدمير وما لحق بالاقتصاد السوري من ضرر في الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة، كما في نقده الوطني وتدهور سعر الليرة السورية أمام سعر الدولار بسبب نقص مداخيل الدولة السورية والحصار الدولي المفروض عليها إقتصادياً ومالياً وهو ما دفع النزوح القسري لملايين السوريين سواء في الداخل السوري إلى المناطق الآمنة، أو إلى الجوار السوري في لبنان وتركيا والأردن وأجزاء من العراق وداخل الأراضي اللبنانية آلاف النازحين وقد وصل عددهم إلى حوالي مليون و200 ألف وفق ما ذكره رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان قبل أكثر من شهرين وذكّر به وزير الداخلية مروان شربل ووثقته منظمات دولية ومحلية، إذ حذرت من أزمة نازحين في لبنان الذي لم يتلق مساعدات ذات قيمة مالية اواغاثية للقيام بدوره بإغاثة النازحين وتأمين المستلزمات اللائقة لهم على مستوى السكن والتربية والصحة وأن ما أقر في مؤتمر الكويت من دعم للنازحين السوريين والذي قدر بحوالي 375 مليون دولار، لم يصل من هذا المبلغ سوى القليل وهو ما فرض على المسؤولين اللبنانيين إعلاء الصوت واطلاق صرخة إن لبنان لم يعد يتحمل وجود ثلت عدد سكانه على أراضيه وتوزيعهم الجغرافي الفوضوي والقلق الأمني من إن بين هؤلاء النازحين أكثر من 50 ألف مسلح كما أعلن النائب سليمان فرنجية.
ووفق ما ذكرت تقارير أمنية، إن عدد الجرائم التي يرتكبها السوريون هي الأكثر بين حوادث السرقة والسطو والقتل والاعتداء الجنسي وهو ما لا يستطيع لبنان تحمله بسبب قلة عناصره الأمنية والعسكرية لضبط الوضع الأمني وإكتظاظ السجون التي لا تستوعب المجرمين اللبنانيين فكيف بالسوريين الذين بدأوا فعلياً يشكلون خطراً على السلم الأهلي من خلال مشاركتهم بالقتال مع قوى لبنانية وهو ما حصل في طرابلس وعبرا وعرسال سواء ضد الجيش اللبناني أو قوى لبنانية أخرى في جبل محسن ولأسباب مذهبية وهو ما تم التحذير منه، من أن يكون النزوح السوري عامل تفجير للأمن بعد أن أعلنت جبهة النصرة عن وجودها في لبنان وعن اعتقال الجيش لعناصر منها شاركوا في جرائم قتل ضد ضباطه وجنوده كما حصل في عرسال وعكار والشمال أو من خلال ضبط سلاح ومتفجرات في حوزة عناصرها وهو ما تم عرضه في اجتماع للمجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية أو في الاجتماعات الدورية لمجلس الأمن المركزي فكان التحذير من قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية من خطورة وضع النازحين السوريين الذين استخدموا أيضاً في السجالات السياسية.
وعندما طرح الوزير جبران باسيل في مجلس الوزراء ضرورة ضبط عبور النازحين السوريين إلى لبنان عند الحدود حتى ولو اضطر الأمر إلى اقفالها لبعض الوقت، انبرت حملة عليه من قوى «14 آذار» ومن جماعات اسلامية بأنه عنصري حتى لم يوفره حلفاؤه، وحصل نقاش حاد بينه وبين الوزير وائل أبو فاعور داخل جلسة مجلس الوزراء حول موضوع النازحين الذين كان أبو فاعور ينظر إليهم وفق خصومه على أنه صندوق مهجرين جديد يستفيد منه حزبه مالياً وسياسياً إلا أن الوقائع على الأرض أتبثت إن القضية أكبر بكثير وبات أبو فاعور نفسه ومعه رئيسه النائب وليد جنبلاط يدعوان إلى التعاطي مع موضوع النازحين السوريين بطريقة مختلفة كإقامة مخيمات لهم وهو اقتراح تخوّف منه البعض من أن يتحولوا كمخيمات الفلسطنيين الذين كانت إقامتهم مؤقتة للعودة إلى فلسطين وصدر قرار عن الأمم المتحدة حمل رقم 194 بفرض حقهم بالعودة ولم ينفذ منذ عام 1948 وإن النازحيين السوريين قد لا تكون عودتهم سريعة لأن مدنهم وقراهم ومنازلهم مدمرة حتى لو توقفت الحرب والمعارك، وهم بذلك يشكلون قنبلة ديمغرافية، وسينظر إليهم كرديف للسنة في لبنان، كما هي النظرة إلى توطين الفلسطنيين فيه، وعملية التجنيس التي حصلت قبل عقدين، وخلقت صراعاً داخلياً لم ينته بعد في بلد يتم الحديث فيه عن الأكثرية العددية والديمقراطية التوافقية، وفي نظام سياسي قائم توزيع السلطات والوظائف فيه على النسبة العددية.
ولقد أشارت دراسة صدرت مؤخراً عن أن عدد الطلاب السوريين في لبنان وصل إلى 470 ألف طالب في حين أن عدد اللبنانيين هو 350 ألف، فمن يستوعب هؤلاء في المدارس وكذلك في المستشفيات التي تستوعب 12 ألف سرير، في حين أن عدد الجرحى السوريين هو بحدود خمسين ألفاً، يضاف أليهم عدد المرضى لاسيما منهم أصحاب الأمراض المزمنة والأدوية التي يتلقونها إذ أعلنت وزارة الصحة عدم استيعابها لهؤلاء، ودفع فاتورتهم وهي لا تملك أن تسددها عن اللبنانيين فكيف ستفعل عن السوريين الذين لا ينظر إليهم اللبنانيون نظرة عنصرية أبداً، بل هم احتضنوهم في كل المدن والبلدات، كما احتضن السوريون اللبنانيين أثناء محنتهم واعتداءات اسرائيل على لبنان، إلا أن طاقتهم المادية وامكاناتهم المالية والمساحة الجغرافية التي لا تقاس بما هي مساحة تركيا التي استوعبت حوالي 200 ألف نازح بين 72 مليون تركي، والأردن 150 ألفاً بين 7 ملايين، في حين أن لبنان لا يمكنه أن يستوعب هذا الكم البشري إذ أن الرئيس سليمان اقترح نقل النازحين إلى المناطق الآمنة في سوريا سواء كانت تحت سيطرة النظام أو المعارضة، إضافة إلى مناشدته الدول تقديم مساعدة مالية سريعة، لبلد لا يستطيع دفع رواتب موظفيه ومعلميه وعسكرييه.
فشعب واحد ولد في دولتين تكرس على مدى العقود والقرون من النضال المشترك، والروابط التي تربطهما جغرافياً وتاريخياً واجتماعياً واقتصاديا، لكن الثقل البشري كبير على لبنان ولا بدّ من حل.
Leave a Reply