هل الضجيج الإعلامي والسياسي المفتعل الآن بشأن «عملية السلام» سيوصل حجيجا فلسطينيا للقدس وللدولة الفلسطينية؟! وما الذي تغيّر منذ العام 2010، إن لم نقل منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، عمّا هو قائمٌ الآن في السياسات الأميركية والإسرائيلية والفلسطينية؟!. ففي العام 2010 كان أوباما، وما يزال، يرأس الإدارة الأميركية، وكان نتنياهو، وما زال، على رأس الحكومة الإسرائيلية، وكان محمود عباس، وما زال يقود السلطة الفلسطينية، فأين هي عناصر التغيير المتوقّعة في سياسة أي طرف؟ ولماذا يرى الرئيس أوباما والوزير كيري إمكانية النجاح الآن فيما لم يكن ممكناً في العامين 2009 و2010؟! فالمشكلة لم تكن في المبعوث الأميركي، واللبناني الأصل، جورج ميتشل الذي اختاره الرئيس أوباما في الأسبوع الأول من وجوده في «البيت الأبيض» من العام 2009، ثم فشلت مهمته بعد جولاتٍ وصولات عديدة، لكي يكون الحلّ الآن بتكليف الأسترالي اليهودي الأصل مارتن أنديك. صحيح أنّ إسرائيل ترضى عن أنديك، وتاريخه معها أكثر من رضاها على ميتشل الذي شجّع بشكل غير مباشر على الإنتفاضة الفلسطينية الثانية، لكن ميتشل على الأقل نجح في إنهاء الأزمة الإيرلندية بينما فشل أنديك في تحقيق «السلام الإسرائيلي-الفلسطيني»!.
كيف يمكن المراهنة على هذه الجولات الجديدة من المفاوضات إذا كان نتنياهو ومعظم أعضاء حكومته يرفضون وقف الإستيطان والانسحاب من القدس وحقّ العودة للفلسطينين، وهي القضايا الكبرى المعنيّة بها أي مفاوضات أو «عملية سلام» بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي قبل إقامة الدولة الفلسطينية؟! ثمّ كيف يأمل الفلسطينيون بموقف أميركي فاعل إذا كانت إدارة أوباما قد تجنّبت ممارسة أي ضعط فعلي على إسرائيل رغم التباين مع حكومتها بشأن المستوطنات، فتراجعت واشنطن ولم تتراجع تل أبيب؟!.
وما الذي يقصده الوزير جون كيري حينما تحدث عن «أهمّية تقديم التنازلات والتوصّل إلى حلول وسط»، فهل سيكون هناك «نصف انسحاب إسرائيلي» من الضفة «ونصف إزالة للمستوطنات»، وبالتالي «نصف دولة فلسطينية»؟!، وهل سيقبل الفلسطينيون بذلك؟
وهل تراهن إدارة أوباما الآن على استثمار نتائج ما حدث ويحدث في البلاد العربية من تهميش للقضية الفلسطينية ومن تفجير لصراعات وحروب أهلية عربية ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، من أجل دفع إسرائيل لقبول «المبادرة العربية» بعد الحديث عن تعديلات في نصوصها، فيعمّ التطبيع «العربي والإسلامي» مع إسرائيل قبل انسحابها من جميع الأراضي العربية المحتلة في العام 1967؟!
لقد أصبحت المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هي القضية، وكأنّ 20 سنة من هذه المفاوضات (منذ أوسلو 1993) لم تكن قائمة!. مفهومٌ هذا الإلحاح الإسرائيلي على المفاوضات المباشرة دون شروط، ففي ذلك استئنافٌ أيضاً لما حصل في السنوات الماضية من قضم للأراضي الفلسطينية ومن «تهويد» للقدس ومن بناء مستوطنات جديدة فيها وفي عموم الضفة الغربية، طبعاً مع تحسين «صورة إسرائيل» في العالم من خلال إظهار قادة فلسطينيين يتفاوضون ويمرحون مع أركان الحكم الإسرائيلي.
مفهومٌ إذن، هذا الإصرار الإسرائيلي على المفاوضات دون شروط مسبقة، لكن لا يوجد بعدُ تفسير مقنع لهذا التراجع في الموقفين الفلسطيني والأميركي بعدم الربط بين تجميد الإستيطان وبين المفاوضات المباشرة. فأين هي الضغوط الفلسطينية والعربية على إدارة أوباما، ولماذا هذا التسهيل الدائم للرغبات الأميركية ممّا يُضعف الموقفين العربي والأميركي معاً؟!.
إنّ إسرائيل (يدعمها الموقف الأميركي) حرصت منذ حرب العام 1967 على التمسّك بأسلوب المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وأي طرف عربي، وعلى الدعوة إلى حلول منفردة مع الأطراف العربية؛ ممّا يشرذم الموقف العربي أولاً (كما حدث بعد المعاهدة مع مصر)، وممّا يؤدّي أيضاً إلى تقزيم القضية الفلسطينية وجعلها في النهاية مسألة خلاف محصورة فقط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني؟!.
لذلك، فإنّ الضغط الأميركي المطلوب على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي يقوم على رفض أي مفاوضات مع إسرائيل ما لم يتمّ الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان في جميع الأراضي المحتلّة، إضافةً إلى إنهاء الحصار القائم على قطاع غزّة، على أن يترافق ذلك مع تجميد كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، واستمرار خيار المقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وبذلك تكون هناك مصداقية للموقف الرسمي الفلسطيني والعربي، وتكون هناك خطوات عربية جدّية داعمة للضغط الأميركي «المعنوي» الذي تمارسه إدارة أوباما لأمدٍ قصيرٍ من الوقت على نتنياهو.
فما حدث في السابق من «أزمة معنوية» بين أوباما ونتنياهو لم يكن بين «الدولتين»: أميركا وإسرائيل، بل بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو. والأزمة أصلاً كان مردّها الأجندة الخاصّة بكلّ طرف حول أوضاع الشرق الأوسط ككل. فالتزامن بالوصول إلى الحكم في العام 2009، الذي حدث بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو، لم يرافقه توافق في الأجندات المرحلية. إذ بينما جاءت إدارة أوباما على شعارات رفض التطرّف والسعي لمعالجة الأزمات الدولية عبر التفاوض، وصل نتنياهو للحكم بفضل غالبية متطرّفة من الناخبين الإسرائيليين، وعلى رأس حكومةٍ أدار وزارة خارجيتها مستوطنٌ يريد تهجير الفلسطينيين، ويرفض الاتفاقات الموقّعة مع السلطة الفلسطينية، ويهدّد بقصف مواقع مصرية. أيضاً، وهذا هو الأهم، فإنّ حكومة نتنياهو التي أرادت التنصّل من مسيرة التسوية مع الفلسطينيين، عملت من أجل دفع أميركا والغرب إلى مسيرة حرب مع إيران ومن يقف معها عربياً. فهو خلافٌ كان يتجاوز مسألة الاستيطان ويشمل الرؤية الأميركية لمصير الصراعات والحروب والتسويات في الشرق الأوسط الكبير.
إنّ حكومة نتنياهو كانت، وما تزال، تراهن على انقسامات وصراعات في الجسم الفلسطيني وفي عموم المنطقة العربية، وتجد مصلحةً كبيرة الآن في الأحداث الدموية الجارية في سوريا وانعكاساتها على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، كما أنّ إسرائيل مرتاحةٌ جداً لفقدان الاستقرار السياسي والأمني في مصر، ولتصاعد الصراعات العنفية في المجتمعات العربية.
الآن تتجمّع قطعٌ مبعثرة لتشكّل لوحةً شبيهةً بما حدث في مطلع عقد التسعينات، عندما سعت واشنطن لاستثمار نتائج حرب الخليج الثانية والصراعات العربية الحادّة التي سادت آنذاك، من أجل إقامة «شرق أوسطي جديد» كانت تباشيره في مؤتمر مدريد ثمّ اتفاقيات «أوسلو» و«وادي عربة» وعلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية، بينما لم تخسر إسرائيل شيئاً مقابل تلك التنازلات الفلسطينية والعربية. ومنذ ذلك الحين، أي خلال عقدين من الزمن، اُجبرت إسرائيل مرّتين على الانسحاب من أراضٍ عربية محتلة: جنوب لبنان وقطاع غزة، فقط بفعل المقاومة لهذا الاحتلال.
فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعود أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من إسرائيل لأنفسهم، فكيف بما يتوجّب على إسرائيل للفلسطينيين والعرب؟! فالطرف الفلسطيني أو العربي الذي يقبل بالتنازلات هو الذي يشجّع الآخرين على طلب المزيد ثمّ المزيد.
Leave a Reply