مع دخول الرئيس المكلّف النائب تمام سلام الشهر الخامس، من جهود تشكيل الحكومة دون أي توفيق، فإنه قد بدأ يشارف «الخط الأحمر»، إذ المتعارف أن الفترة المعقولة لتأليف الحكومة، لا تمتد لأكثر من شهرين قبل الحرب الأهلية في العام 1975، سوى حكومة واحدة أخذ رئيسها المرحوم رشيد كرامي فترة تسعة أشهر لتشكيلها في ظل ظروف سياسية وأمنية معقدة، رافقت اشتباكات الجيش مع المقاومة الفلسطينية في العام 1969 التي اوصلت الى اتفاق القاهرة.
وكانت الحكومات في ظل الوجود السوري، تولد دون أزمات، وتطبخ لدى صانعي القرار من المسؤولين السوريين وتصدر مراسيمها في لبنان، ولم يكن يشعر اللبنانيون بأزمات حكومية، لأن الرئيس رفيق الحريري شكّل أغلب الحكومات منذ نهاية العام 1992 حتى العام 2004، باستثناء حكومة الرئيس سليم الحص في بداية عهد الرئيس إميل لحود في نهاية العام 1998، واستقالت بعد الانتخابات النيابية في العام 2000، ثم حكومة الرئيس عمر كرامي بعد التمديد للرئيس إميل لحود في نهاية تشرين الأول عام 2004 وحتى نهاية شباط 2005، فاستقالت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط من ذلك العام.
فالحكومات في فترة الوجود السوري كانت جاهزة، ولم يحصل خلالها تبديل في الوزراء إلا العدد القليل منهم، وهي كانت تبقى فترة طويلة في السلطة تمتد الى حوالي الثلاث سنوات.
أما بعد الإنسحاب السوري، فإن أول حكومة شكّلها الرئيس نجيب ميقاتي في نيسان العام 2005 للإشراف على الانتخابات في ذلك العام، فكانت نتيجة توافق أميركي- فرنسي-سعودي-إيراني-سوري، وتمثّل فيها «حزب الله» للمرة الأولى عبر الوزير طراد حماده، ونشأ ما سمّي «تحالف رباعي» ضمّ كلّاً من حركة «أمل» و«حزب الله» من جهة و«تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي من جهة ثانية، وقد أنتج هذا التحالف أكثرية نيابية تشكّلت منها حكومة برئاسة فؤاد السنيورة كان خارجها «التيار الوطني الحر» الذي استبعد عن التحالف الرباعي، لكنه حصد كتلة نيابية وازنة، وبأصوات مسيحية قاربت الـ 70 بالمئة، ولبّى ما أطلقه النائب وليد جنبلاط على العماد ميشال عون «التسونامي» بعد عودته من منفاه الفرنسي.
فإذا كان السوريون لعبوا الدور الأساسي في تركيب هيكلية النظام السياسي في لبنان، عبر المؤسسات الدستورية، فإن الوضع لم يتبدّل بعد خروجهم منه، إذ أن العامل الخارجي بقي مؤثراً حيث أن الحكومات المتعاقبة أتت بفعل دور وتدخل دولي وإقليمي وعربي، وأن حكومة ميقاتي الأولى، أفرزها تفاهم أميركي-فرنسي-سعودي-إيراني- سوري، وهو ما طبّق على الحكومة الأولى للرئيس فؤاد السنيورة، وافتتح زيارته الى الخارج من البوابة السورية ، الى أن خرج منها «الثنائي الشيعي» (أمل وحزب الله) باستقالة وزرائهما منها في خريف 2006، مما أفقدها ميثاقيتها وشرعيتها الدستورية، وأن تركهما لها هو نتيجة ممارسة فريق «14 آذار» في أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان والمقاومة في صيف 2006، إذ طالب هذا الفريق وقبل وقف إطلاق النار أن تسلم المقاومة سلاحها الى الجيش اللبناني مما خلق شرخاً وعدم ثقة بين أطراف الحكومة، التي ذهب رئيسها السنيورة وممثلو «14 آذار» فيها الى محاولة استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بإعلان تشكيل المحكمة الدولية بلبنان وفي موضوع اغتيال الرئيس الحريري، ووُضع القرار تحت بند الفصل السابع كسيف مسلّط فوق رأس المقاومة، حيث ما عجز «السياديون» من نيله عبر العدوان الإسرائيلي الذي استهدف المقاومة وسلاحها، وعدم وضع القرار 1701 تحت بند الفصل السابع، فإن الحكومة التي رعى تأليفها قرار خارجي وتحالف رباعي، انهار جزء من هيكلها باستقالة الوزراء ممثلي الشيعة في الحكومة، وحصل اعتصام قوى «8 آذار» في ساحة رياض الصلح، وتعطّل عمل مجلس النواب، ولم تنتهِ الأزمة، إلا بحصول أحداث 7 أيار 2008، وعودة التوازن الداخلي الى الساحة اللبنانية، ولم تحل الأزمة بين القوى المتصارعة في 8 و14 آذار، إلا باتفاق الدوحة، الذي ملأ الفراغ في رئاسة الجمهورية بانتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في تشرين الثاني من العام 2007، وانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، في نهاية ايار 2008 بالتوافق على اسمه دولياً وإقليمياً وعربياً، وتشكّلت حكومة تمثّلت فيها كل الكتل النيابية بما فيها كتلة الإصلاح والتغيير وبرئاسة السنيورة حيث حصلت المعارضة آنذاك على الثلث الضامن، فأجرت الحكومة الثانية للسنيورة الانتخابات النيابية بالعودة الى قانون 1960 الذي يعتمد القضاء دائرة انتخابية وبتراجع عن اتفاق الطائف ونقضاً له.
فالحكومة الثالثة بعد الانسحاب السوري تشكّلت بتدخل خارجي، مما يؤكّد أن اللبنانيين ليسوا أهلاً لحكم أنفسهم، كما كان يقول الرئيس الراحل الياس الهراوي، وقد أثبتوا أنهم بحاجة الى وصي دائم عليهم يدير شؤونهم، فيصنع لهم رئيس الجمهورية، وهو ما حصل منذ الاستقلال عند انتخاب الرئيس بشارة الخوري بقرار ودعم بريطاني الى الرئيس الحالي ميشال سليمان الذي كان انتخابه حصيلة توافق أميركي-فرنسي-مصري-قطري وبموافقة سورية عليه.
أما حكومة الرئيس سعد الحريري، فهي حصيلة اتفاق سوري-سعودي وما عُرِف بالـ«سين-سين»، وتمثّلت فيها كل الكتل النيابية، وقد اهتزّت من داخلها عندما بدأ هذا الاتفاق يهتز، وخروج أحد الأطراف عليه عندما منعت إيران إياد علاوي الذي فاز بأكثرية نيابية من تشكيل حكومة في العراق، ولم تدعم سوريا هذا التوجه، أو أن إيران نفّذت ما تريد، وأتت بنوري المالكي الى رئاسة الحكومة بدعم أميركي، وهو ما انعكس سلباً على لبنان، وكان قرار إيراني-سوري بإسقاط الحريري عبر تقديم وزراء «8 آذار» و«التيار الوطني الحر» استقالاتهم من الحكومة مع الوزير الملك عدنان السيد حسين، مما شكّل إرباكاً لقوى «14 آذار» التي انقلب عليها النائب وليد جنبلاط عبر تغيير مساره السياسي، وإعادة علاقاته مع سوريا منذ العام 2009، تحت مظلة الاتفاق السعودي-السوري، وأن يسبقه الى زيارتها ولقاء الرئيس بشار الأسد، رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، وهذا ما حصل، إلا أن رئيس «جبهة النضال الوطني» ارتبك مع انهيار الاتفاق السوري-السعودي، الذي اتهم الحريري بأنه لم يطبقه في قضية شهود الزور الذي أصرّ فريق «8 آذار» على تحويلها الى المجلس العدلي فرفض رئيس الحكومة لأنها تطال أشخاصاً من فريقه سواء كضباط في قوى الأمن الداخلي، أو نواباً ووزراء وسياسيين وإعلاميين ساهموا في تركيب شهود الزور، وتقديم إفادات كاذبة للجنة التحقيق الدولية وتغيير مسار الاتهام القضائي وتحويله الى اتهام سياسي طال ضباطاً أربعة هم: جميل السيد، علي الحاج، ريمون عازار ومصطفى حمدان، وكان سيطال سياسيين وإعلاميين، إضافة الى ضباط سوريين، والوصول الى الرئيس السوري بشار الأسد.
انتهت مرحلة «الحريرية السياسية»، بخروج رمزها سعد الحريري من السلطة، ليسمى نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة للمرة الثانية، ولكن بقرار سوري-إيراني تجاوب معه جنبلاط الذي يتهمه فريق «14 آذار» بأنه خاف من «حزب الله» الذي نزل عناصره بـ«القمصان السود» فرجح أعضاء كتلة «جبهة النضال الوطني» الأكثرية النيابية الى جانب «8 آذار» والعماد عون، مما أثار غضب «تيار المستقبل» الذي نزل الى الشارع ضد الانقلاب الذي حصل، وقد تزامن مع الحراك الشعبي الذي كان بدأ في تونس ومصر وأطاح بحكم عائلتي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وكان ثالثهما حكم آل الحريري كما قال خصومهم، لكن تأليف الحكومة الميقاتية استمر من نهاية كانون الثاني 2011 حتى تموز 2011، وتشكّلت من قوى «8 آذار» التي شاركها كل من الرئيس سليمان والرئيس ميقاتي والنائب جنبلاط، وقد أسموا أنفسهم الكتلة الوسطية في الحكومة التي لم تعرف الاستقرار، لاسيما بعد أن بدأت الأزمة السورية في 25 آذار من العام 2011، وقبل أن تشكل، إذ انعكست التحولات والتطورات التي كانت تعصف بالعالم العربي عليها، وقد بات رئيسها ميقاتي مكبلاً إذ تصدى لكل محاولات استبدال وجود الحريرية السياسية في السلطة وإدارات ومؤسسات الدولة، ولم يلتزم بتعهداته لقوى «8 اذار» فموّل المحكمة الدولية ولم يحوّل شهود الزور الى المجلس العدلي، وأبقى كل رموز «تيار المستقبل» في السلطة، ومارس بذلك دور الوكيل عن الأصيل سعد الحريري وتياره السياسي وحلفائه.
وهكذا خذل ميقاتي المحور الذي أسماه داخلياً وخارجياً، واستغل اللحظة العربية والدولية للاستقالة مستغلاً طلبه التمديد للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، ورفضه من «8 آذار» والعماد عون، وقد فعل ذلك لنيل ثقة طائفته السنّيّة، وآل الحريري وقوى «14 آذار» ومن ورائهم السعودية التي لم تغفر له ولجنبلاط فعلتهما بالانقلاب عليها، وسحب الأكثرية من «14 آذار» وقد حاولا تصحيح ما ارتكباه، باستقالة الحكومة، وقام جنبلاط بطرح اسم النائب تمام سلام كرئيس حكومة بديل، ونال موافقة الرئيس نبيه برّي عليه لتسويقه بين قوى «8 آذار» على أن تكون ممثلة فيها، وان لا يشارك بحكومة لا يتمثّل فيها «حزب الله» الذي رفض فريق «14 آذار» مشاركته في حكومة يكون فيها مع وجود سلاحه، وهو شرط كان الرئيس المكلّف قد وافق عليه عند تسميته من قبل «14 آذار» في بيت الوسط وبعد وصول التأييد السعودي له الذي نفّذه سعد الحريري، على أن تكون الحكومة حيادية، وهو ما أكّد عليه في كلمته بإفطار «تيار المستقبل».
ولقد أمضى سلام أربعة أشهر، ولم يوفق بتشكيل الحكومة التي تغيّرت وظيفتها بالإشراف على الانتخابات بعد التمديد لمجلس النواب، وقد طرح أن تكون من شخصيات غير سياسية وغير مرشحة ولا تستفز أحداً، وقد حاول أن يستفيد من الإجماع النيابي على اسمه، ليطرح على رئيس الجمهورية حكومة من شخصيات أكاديمية ومهنية، لكن الرئيس ميشال سليمان نصحه بالتريث، لأن النائب جنبلاط وعد الرئيس بري أن لا يشارك في حكومة غير سياسية مما أخّر إصدار مراسيمها، لحل إشكالات المشاركة، ووُضعت صيغ عديدة، لكنها لم تبصر النور، لأن العوائق السياسية كانت كثيرة، والشروط والشروط المضادة متبادلة بين الأطراف السياسية مما كبّل مهمة الرئيس المكلّف الذي اعتمد صيغة 8+8+8 لحكومته، ورفض إعطاء الثلث الضامن لفريق «8 آذار» الذي حلّه الرئيس برّي واعتبره غير موجود، وأن «التيار الوطني الحر» ليس جزءًا منه، وهو بدأ يبتعد عن بعض مكوناتها، واختلف معها على قانون الانتخاب ثم التمديد لمجلس النواب، والتمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي.
فمع الشروط والشروط المضادة، استهلك الرئيس المكلّف أربعة أشهر دون أن يتقدّم الى الأمام، وكان يواجه بأن «حزب الله» يصر على المشاركة، و«تيار المستقبل» يرفض، ويطرح الحريري خروجهما معاً من الحكومة، وأيضاً 8 و14 آذار، وأن يترك لرئيس الجمهورية والحكومة تشكيل الحكومة، وهو ما رفضه «حزب الله» وحلفاؤه، واعتبروا أن الحكومة الحيادية غير موجودة، وأن المقصود منها إقصاء «حزب الله» ومحاولة عزله لملاقاة قرار الاتحاد الأوروبي الذي صنفه بـ«الإرهابي» وكذلك فعل بعض دول الخليج، على خلفية مشاركته بالقتال في سوريا الى جانب النظام، إضافة الى اتهامه بـ«أعمال إرهابية» في بلغاريا وقبرص وهي غير مؤكدة.
وقد تشدّد الحزب في مشاركته بالحكومة، لأنه لا يريد أن يعطي إجازة لأحد بأن يخرجه من السلطة ويساهم بتصنيفه إرهابياً وإلغاء شرعية المقاومة التي تكرّست في البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة، وهو ما أكّد الرئيس الحريري استحالة حصوله هذه المرة، مما سيعقّد مهمة الرئيس المكلّف الذي لم يعد قادراً على الانتظار أو التقدم نحو الاعتذار، ولم يبق أمامه سوى أن يشكّل حكومة يسميها هو «مصلحة وطنية» يتطلّع إليها اللبنانيون من خارج الاصطفاف السياسي لـ 8 و14 آذار، طالما هو لم يتمكّن من تسويق صيغته ثلاث ثمانات، التي لا تستثني أحداً لكنها تتشكل من شخصيات غير مستفزة مع مداورة الحقائب، لكن لم يتمكّن من ذلك، وهو يتّجه نحو حكومة يتّفق عليها مع رئيس الجمهورية الذي لاقاه في خطابه بعيد الجيش، بأنه إذا تعذّر تشكيل حكومة تمثّل القوى السياسية بسبب شروطها، فإن الحكومة الحيادية لا بدّ منها.
الحريري وافق سليمان الرأي، لكن الرئيس برّي سأل هل سلام من خارج «14 آذار»، كما أن أطرافاً أخرى رأت في موقف رئيس الجمهورية من المقاومة، يعبّر عن «14 آذار» وهو بهذا المعنى ليس حيادياً، فكيف سيوقّع على مراسيم حكومة حيادية، وهل سيوافقهما النائب جنبلاط على ذلك، ويتراجع عن موقفه بعدم مشاركته في حكومة تقصي قوى سياسية من بينها «حزب الله»، وقد اعلن انه سيعيد البحث في خياراته التي عليها ستقرر مسألة تشكيل الحكومة التي قد يوافق ان تكون حيادية مع تعنت الاطراف بشروطهم والتي إذا وافق عليها الرئيس سليمان والرئيس سلام، فإن الثنائي الشيعي سيرفضها، وقد تكون ردة فعلهما في الشارع، وسيعطّل وصولها الى مجلس النواب لنيل الثقة، وسيضع لبنان أمام خطر الإنفجار لأن «تيار المستقبل» وحلفاءه يعملون على استصدار مراسيم الحكومة، لتصبح حكومة ميقاتي مستقيلة فعلياً وليست في تصريف الأعمال، وسحب الشرعية منها، ليتمكّن فريق «14 آذار» عبر الحكومة الحيادية التي ستستقيل، العودة الى السلطة، من خلال آل الحريري، حيث متعذّر عودة سعد، فإن النائب بهية الحريري حاضرة لذلك، باقصاء ابنها نادر المرفوض من مستشاري الحريري الاخرين وتمّ استبعاد الرئيس فؤاد السنيورة الطامح للعودة مجدداً الى السراي.
والحكومة الحيادية لن تبصر النور لأنها ستواجه في الشارع الذي قد لا يتم ضبطه إلا باتفاق سعودي – إيراني الذي طالب به الرئيس نبيه بري مستندا الى سابقة دعوته الى اتفاق سوري – سعودي لحل الازمة التي نشبت في العام 2006 حيث ستعقد القمة المنتظرة بين العاهل السعودي الملك عبدالله والرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني الشهر المقبل كما ذكر، ومن دونه لا حكومة في لبنان…
Leave a Reply