منذ فترةٍ طويلةٍ تعرفتُ على هذا الجبل العراقي الذي لايعلوه جبل في عراقيَّته ووطنيّته وحبه الكبير لبغداد التي عشقَها حدَّ الجنون، وكانت معرفةً تندرجُ في طورِ معارفِ الأدب لوحدِهِ، ولكن في تسعينيات القرن الماضي توطّدت علاقتي به إلى درجة الصداقةِ أيّامَ التقينا في المغتَرَب وسط عمّان، تجمعنا الهمومُ المشتَرَكة، فأصبحت لقاءاتُنا شبه يوميّة، تتوزّعُ في مقهى السنترال أو في بيتنا أو بيته، وعندما دشّنتُ افتتاحَ مجلس «الشلال الثقافي» في عمّان كان المرحوم القاص أبو عمر واحداً ممن لايفوِّتون أسبوعا واحداً إلّا ويكون من حاضريه تصاحبُهُ زوجتُه الكريمة القاصّة «هدية حسين» ويُغني المجلس بمحاضراته الثقافية متحدِّثاً سارداً عن تفاصيلِ حياةِ بغداد وخصائصِ أهلِها الطيّبين وفي عينِ المجلسِ الذي كان يُعقَدُ في بيتي قد أعلن عن طبعِ ونشرِ روايته الجميلة «أبو الريش» فجرى توقيعُ الكتاب بحضور جمعٍ كبيرٍ من الأدباء والشعراء منهم، الشاعر كمال العبدلي، الشاعر حسن النصار، الشاعر حسن النواب، الشاعر فالح حسون الدراجي، الشاعر طالب الدراجي، الكاتب والصحفي صباح اللامي، الأديب ذياب مهدي آل غلام، الأديب محسن الجبوري، الدكتور الشاعر أحمد الربيعي، الأستاذ عامر الجبوري، الوزير عبد الحسين العطيّه، المفكر محمد الآلوسي، الأستاذ عامر رشاد رسام الكاريكاتير المشهور وعدد كبير من المثقّفين الذين غصّت بهم قاعةُ المجلس «ومازلتُ أحتفظ بالكثير من الصورِ التذكاريّة التي سأنشرها لاحقاً لكوني الآن في سفرٍ بعيدٍ عن البيت، والتي يظهر فيها المرحوم القاص عبد الستار ناصر وهو يلقي محاضراته في بيتي»، وأعتذر لكلّ الاخوة الأدباء والشعراء الذين لم أذكرهم بسبب طول المدّة وهفوة الذاكرة.
قبل حلول شهر رمضان الكريم إتّصلَ بي الدكتور محمد الطريحي طالباً منّي رقم هاتف الراحل العزيز عبد الستار ناصر، فأعلمتُهُ بأنني مقصر كثيرا مع هذا الرجل وزوجته لكوني لم أتصل بهم منذ فترةٍ طويلةٍ، فردَّ عليَّ الدكتور الطريحي مدير المركز الثقافي العراقي في واشنطن بأنه يعتزم دعوةَ القاص والروائي المرحوم عبد الستار وزوجته الروائية هدية حسين إلى واشنطن لتكريمهما والإحتفاء بهما من خلال عقد عدة أمسيات ثقافية لهما في واشنطن، بحثتُ عن رقم هاتفهما فلم أفلح في إيجاده، وأخيراً خطرَ ببالي الأستاذ الشاعر كمال العبدلي، فاتصلتُ به على الفور، كي أعلمَ الراحلَ العزيز عن موضوع استضافته في واشنطن ولكي اطمئنَّ عليه وعلى زوجته الفاضلة، وفعلاً تمَّ تزويدي برقم هاتف المرحوم من قبل أبي حيدر، وعلى الفور اتصلت به فكانت على الخط زوجته الأخت العزيزة القاصّة «هدية» وقالت لي «أخي أبا عليّ إنّ عبد الستار نائم ومريض منذ فترة وأنت منذ زمنٍ طويل لم تسأل عنا» فاعتذرتُ شديدَ الإعتذار وقلتُ لها سأعاود الإتصالَ فيما بعد، ثمّ عقبَ مُضِيّ أربع ساعات عاودتُ الإتّصال وإذا بالمجيب عبد الستار ناصر، تحدثنا طويلاً وباستِفاضةٍ، عن الأيّام الصعبةِ في عمّان ووجهتُ له دعوةَ الأخ الدكتور محمد الطريحي مدير المركز الثقافي في واشنطن وقال لي ياأبا عليّ إنني مريض جدّاً، لدرجةِ أنّ مرضي يعيقني عن تلبية الدعوة، فانتابني إحساسٌ غريب جعلني أشعرُ حينها بالخوف على هذا الرجل العملاق فرجوتُهُ أن أتحدّثَ مع «هدية» كي أستعلمَ الأمرَ، وفعلاً تبادلنا الحديثَ فأفصحتُ لها عن مخاوفي فأكّدتْ لي أنّ صحته في حالةٍ خطرة، وقلت إلى الأخت «هدية» إنني سأكون في ولاية ميشيغن خلال شهر رمضان في رحلةِ عمل هناك، وفي عيد الفطر سأكون في كندا أنا والأخ الشاعر كمال العبدلي لزيارتكما واتفقنا على ذلك، وفعلاً وصلتُ إلى ميشيغن والتقيتُ بالأخ العبدلي على أمل السفر إلى كندا للقاء العزيز عبد الستار ناصر.
وبينما أنا اغطُّ في نومٍ عميق صباحَ السبت المنصرم وإذا بالهاتفِ يرنّ، وإذا بالأخ كمال العبدلي على الخط يبكي بطريقة أبكتني دون أن اعرفَ شيئاً عن الموضوع ودون أن اعرفَ ماذا حدث، وأبو حيدر لم يستطع أن يتكلم إذ كان يجهش بالبكاء فقلتُ له «أستاذ كمال إنني ربما سأموت الآن أخبرْني بربِّكَ ماذا حدث؟» فقال لي بقلبٍ منكسِرٍ حزين «عظّم اللهُ لك الأجر بصديقنا عبد الستار ناصر». حينها لم أستطع مواصلةَ الكلام وأبو حيدر على الخط يردِّد أبو علي.. أبو علي.. هل أنتَ معي؟، بكيتُ بكاءَ الفاقدين لإخوتهم وأحبتهم وعلى الفور إتصلتُ باختنا القاصة العزيزة «هدية حسين» التي اذهلتني شجاعتُها وصبرُها وحبُّها لهذا الجبل العراقي الكبير وقالت لي «أخي أبا عليّ إن عبد الستار لم يمت وإنه حتى اللحظة الأخيرة يهتف بحبِّ بغداد والعراق»، أنهيتُ مكالمتي معها وأعددتُ نفسي للسفر إلى كندا مع أخي الكبير كمال العبدلي كي نحضرَ مراسمَ تشييع ودفن أخ عزيز لم ولن نستطيع أن ننساه، وقد فعلنا رائحين بحزنِنا وعائدين محمَّلين بثقلِهِ، رحمكَ الله يا أبا عمر وتغمّدكَ برحمته الواسعة وإنّا لله وإنا اليه راجعون.
Leave a Reply