انشغل المصريون والعرب في الأسابيع الماضية «بالذكر عن المذكور»، فأصبحت المشكلة هي كيفيّة تسمية التغيير الذي حدث يوم 3 يوليو في مصر: هل هو ثورةٌ شعبية شارك فيها الملايين من المصريين يوم 30 يونيو أم هو انقلابٌ عسكري؟! وأصبح قادة حركة «الإخوان المسلمون» وكأنّهم أحفاد فولتير ومونتسكيو وروبسيير الذين صنعوا الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر!. فلا نسمع الآن من قيادة «جماعة الإخوان» سوى الحديث عن «التجربة الديمقراطية العظيمة» التي جرى تعطيلها في مصر يوم 3 يوليو، وبأنّها «كانت أول ديمقراطية حقيقية في مصر بعد حكم العسكر لمدة 60 عاماً». وفي هذا «الكلام» الكثير من اللغط والغلط. إذ كيف وصلت «الجماعة» إلى حكم مصر؟ يقولون: بصناديق الإقتراع دون أية اشارة إلى الظروف والتفاصيل التي رافقت عمليات الإقتراع. فما كان «حلالاً» منذ سنة ونيف، أصبح الآن «حراماً».
فانتخاب الدكتور محمد مرسي بغالبية محدودة من الأصوات في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة جاء بعد فشله في تحقيق الحدّ الأدنى المطلوب للفوز بالرئاسة في الجولة الأولى، حينما تقاربت نسبة المقترعين له مع النسب التي حصل عليها المرشحون الآخرون. في تلك الفترة، تعهّدت «الجماعة» لمؤيدي حمدين صبّاحي وعبد المنعم أبو الفتوح بأنّها ستجعل الحكم في حال دعمهم لمرسي قائماً على المشاركة الوطنية العامة، وبأنّها لن تقيم حكماً فئوياً خاصاً بالجماعة نفسها. لكن «جماعة الإخوان» لم تلتزم بتعهّداتها، رغم أن فوز مرسي كان بسبب دعم مؤيدي المرشّحين صبّاحي وأبو الفتوح، تماماً كما حدث من إخلال بتعهدات سابقة أعلنتها «حركة الإخوان» عقب ثورة «25 يناير» بأنها لن تُرشّح لعضوية مجلس الشعب أكثر من نصف عدد الأعضاء، وبأنها لن تُرشّح أحداً لمنصب الرئاسة!.
الأمر الآخر، الذي يتمّ الآن تجاهله، هو أن المؤسسة العسكرية المصرية حكمت مصر فعلاً بعد ثورة «25 يناير» 2011، ولم تقف حركة «الإخوان» آنذاك ضدّ «حكم العسكر»، بل على العكس، كانت الجماعة على تواصل دائم مع المؤسسة العسكرية، وبنصيحة مباشرة من واشنطن تمهيداً لوصول «جماعة الإخوان» إلى الحكم. ثمّ ما الفارق بين إقالة «المؤسسة العسكرية» للرئيس السابق حسني مبارك بعد «25 يناير» وبين عزل مرسي بعد «30 يونيو»؟! أهي صناديق الإقتراع؟ أليست هي الصناديق نفسها التي جدّدت الحكم لمبارك على مدار ثلاثة عقود؟!. ربّما الفارق العملي هنا هو أنّ واشنطن أعطت الضوء الأخضر لقيادة المؤسسة العسكرية عام 2011 بينما وضعت «الخطوط الحمراء» أمام القيادة العسكرية الراهنة لمنع حدوث التغيير، ولم يقبل الفريق السيسي بهذه “الخطوط” التي كانت السفيرة الأميركية في القاهرة قد عبًرت عنها قبل «30 يونيو» بشكلٍ واضح.
أمًا مقولة «الإخوان» عن الحكم العسكري لمصر في الستين سنة الماضية، فهي أيضاً مخالفةٌ للحقيقة وللواقع، وفيها إجحافٌ كبير بحقّ الشعب المصري نفسه. فما الذي كان قائماً قبل ثورة 23 يوليو 1952؟!، هل كان حكماً مدنياً ديمقراطياً؟! ألم يكن يحكم مصر آنذاك الملك فاروق (ابن الملك أحمد فؤاد الذي قامت ضدّه ثورة سعد زغلول) في ظلّ رعاية وهيمنة بريطانية كاملة على مصر، وفي مجتمع سيطرت فيه نسبة نصف بالمائة من الأثرياء المصريين على مقدّرات وثروات الشعب المصري كلّه؟!. ألم تكن «ثورة يوليو» هي التي حرّرت مصر وثرواتها من كلّ أشكال الهيمنة الأجنبية، وهي التي أسقطت حكم الإقطاع ورأسمال المستغل وأعادت للشعب المصري كرامته والسيادة على أرضه، وأتاحت التعليم المجاني والطبابة للملايين من فقراء مصر، وملّكت الأرض لملايين من الفلاحين المصريين كان من بينهم والد الدكتور محمد مرسي؟!.
ثمّ هل يجوز أن تضع «حركة الإخوان» حقبة جمال عبد الناصر بسلّةٍ واحدة مع حقبتيْ السادات ومبارك؟ ألم يكن أنور السادات، الذي انقلب على كلّ سياسات «ثورة يوليو» الداخلية والخارجية، هو أيضاً الذي أطلق سراح العديد من «جماعة ا الإخوان» واستخدمهم في معاركه السياسية والإعلامية مع المؤيّدين للسياسة التي انقلب عليها؟!. ألم يحافظ حكم الدكتور مرسي على معاهدات «كامب ديفيد» والمعاهدة مع إسرائيل، تماماً كما فعل سلفه مبارك حينما تولّى الحكم بعد السادات؟ وما الفرق الذي حصل في سياسة مصر الخارجية بعد «حكم الجماعة»، وماذا حصل في الداخل المصري من «إنجازات» مختلفة عن حقبة مبارك غير “أخونة” الدستور والمؤسسات والمحافظات وغياب كامل لدور السلطات التشريعية والقضائية؟!
ألا يحق للشعب المصري، ولجيل الشباب الذي قاد «ثورة يناير 2011» من دون مرجعية « الإخوان»، أن يُصحّح مسار ثورته التي جرى الانقضاض عليها وتحريف مجراها بعد عامين من «حكم العسكر» فعلاً ومن «حكم الإخوان»؟!. فلو حدث التغيير في 3 يوليو الماضي من دون هذا الحشد من ملايين المصريين يوم 30 يونيو، والذي سبقه تواقيع 22 مليون مصري تجاوباً مع «حركة تمرّد»، لصحّ اعتبار التغيير انقلاباً عسكرياً. أيضاً، لو أنّ التغيير الأخير أدّى إلى إعادة «حكم العسكر» الذي حصل بعد «25 يناير» لصحّ وصفه بالانقلاب العسكري. أمّا أن تتجاوب المؤسسة العسكرية بقيادة السيسي مع ما كان مطلباً شعبياً مصرياً، ثم تُسلّم الحكم لحكومة مدنية مؤقتة، وتضع برنامجاً لدستورٍ جديد ولانتخاباتٍ برلمانية ورئاسية خلال أشهر، فإنّ ذلك يصحّ وصفه بـ«الانقلاب الشعبي»، حيث الجيش المصري هو أيضاً جزءٌ هام من الشعب نفسه، ولا ينفصل عنه وعن همومه ومشاكله، وهو في موقع المسؤولية الأولى عن أمن مصر واستقرار حياتها السياسية والاجتماعية. ألم يفعل ذلك أيضاً الجيش التونسي بعد ثورة شعب تونس على حكم بن علي، ولماذا لم يكن ذلك انقلاباً عسكرياً؟!.
حبّذا لو تستفيد «جماعة الإخوان» في مصر من تجربة التيار السياسي الإسلامي في تركيا حيث كان وصول نجم الدين أربكان لرئاسة الحكومة التركية، في منتصف التسعينات من القرن الماضي، تحولاً خطيراً في مجتمع تركي قام على نظامٍ علماني مخاصم للدين بشكلٍ كامل وعلى دورٍ كبير للمؤسسة العسكرية منذ حكم كمال أتاتورك. فبعد الانقلاب العسكري على حكم أربكان، تصرّفت الحركة الإسلامية المؤيدة له بحكمة وعقلانية، فلم تفعل ما تفعله الآن «حركة الإخوان» في مصر، بل خاضت الانتخابات من جديد عدّة مرات واستمرّت في عملها السياسي الرافض للعنف إلى حين تغيّر الظروف لصالحها فحكمت وما زالت تحكم الآن تركيا. ومن الأمور المميزة في تجربة أربكان، قبل وصوله للحكم وبعده، أنّه كان حينما تُصدر السلطات التركية قراراً بحلّ حزبٍ يرأسه، يقبل بذلك ثمّ يؤسس حزباً جديداً إلى أن وصل عددها إلى سبعة أحزاب.
مصر والعرب كلّهم الآن يأملون أن تُراجع «حركة الإخوان» في مصر نفسها وأخطاءها والخيارات المتاحة أمامها، فلا تختار المصلحة الفئوية على حساب المصالح الوطنية، ولا تختار القيام بعملية سياسية انتحارية تقضي على «الحركة» وعلى الأمن والاستقرار في مصر.
مصر والعرب كلّهم يُدركون أنّ قوًى إقليمية ودولية عديدة لا ترغب بأن ترى القاهرة مستقرّة ولا أن يكون جيشها قوياً فاعلاً بعدما جرى ما جرى في العراق وسوريا، فالجيوش يخرج منها أحياناً قادةٌ كبار لأوطانهم، كما كانت تجارب مصر مع جمال عبد الناصر ولبنان مع فؤاد شهاب وفرنسا مع شارل ديغول وأميركا مع دوايت أيزنهاور. فالمهم أن تكون قيادة الجيوش متحرّرة من الولاء الأجنبي وملتزمة فعلاً باستقلال الوطن وحرية المواطن.
Leave a Reply