لفت نظري خبر عن رئيس حكومة السويد أو النروج لا أذكر (يعني أحد هذين البلدين المتخلِّفَين عن ركب اللحاق بلبنان طبعاً) أنَّه عمل سائق تاكسي لمدَّة يومٍ كامل في عاصمة بلده حتى يتسنَّى له سماع آراء النَّاس الحقيقية حول الأوضاع والسياسة العامَّة لحكومته، وتَركَ مسألة كشف أمره للرُّكاب من المواطنين!
أمَّا في البلد «الجرصة» بين البلدان فقد أعلن ميشال سليمان انتقاله إلى المقرّ الصيفي في بيت الدين، مركز الإمارة الجنبلاطية، هرباً من حرِّ بيروت وعجقتها الخانقة في الصيف (وفي كلِّ وقت هناك جو موبوء وعجقة وتلوُّث، فما الفرق؟) ذلك أنَّ «القصر الجمهوري» في بعبدا لا يلتزم بمتطلبات الراحة والتكييف اللازميَن للتركيز على اتِّخاذ القرارات المصيرية. وعلى الهامش، أذكر أن سليمان فتح مرةً قصر بعبدا للعامَّة (على طراز «البيت الأبيض») من أجل أنْ يقوموا بجولةٍ فيه ورؤية مكان القرارات الخطيرة التي غيَّرت وجه المنطقة، فلم يحضر أحد من الشعب! سليمان يصيِّف في «بتدين» بينما يموت الناس في المناطق الشعبية المكتظَّة من الحر الشديد ولا يجدون أدنى ضرورات العيش الكريم في بلدٍ اكتُشف فيه النفط فأصبح سلعةً بأيدي السياسيين! وقس على ذلك، فليس أكثر من أسفار المسؤولين اللبنانيين على حساب الشعب الذي «يحتكر الزعما والزعما معتَّرين» كما قال يوماً زياد الرحباني. رئيس حكومة في أرقى دول العالم يهمُّه آٓراء النَّاس على سجيَّتها ومن دون رقيب فيدعي أنه يعمل سائق أجرة ومن دون حرس، وعندنا إذا أراد إبن بشير الجميِّل أنْ «يتعشَّى» في مطعم يقوم حرَّاسُه بإرهاب المحلَّة بأكملها وإغلاقها ويضربون النساء خوفاً على حياة معلِّمهم الذي قام بإعداد مشاريع قوانين ما أنزل الله بها من سلطان خفَّفتْ الأعباء عن كاهل الناخبين وجعلتهم في مصاف الدول المتقدِّمة! تصوروا أن ينزل سليمان إلى الشارع مثلاً أو يعمل حوت المال «شوفير» تاكسي لساعةٍ واحدة لا لشيء بل من أجل الاحساس بالفقير في لبنان.
أمّا حيتان المال وعلى رأسهم ميقاتي والسنيورة والصفدي وحمادة فأشغالهم كلُّها في أوروبا ولهم طائراتهم النفَّاثة الخاصَّة وبلمح البصر يغادرون بيروت وقرفها والجو الخانق فيها، مناخياً وسياسياً، إلى أي دولة يرتأون في العالم.
في دولة عظمى مثل أميركا يقوم الرئيس المسمَّى بزعيم العالم الحربنفسه بتفقُّد أحوال المواطنين عندما تقع كارثة طبيعية ويُشرف بذاته على حُسن سيرالعمل، أمَّا في «شقفة» الوطن فكوارث تقع وحوادث مشينة تجري كل يوم من دون سمع أوحِس من الدولة. «حي السُلُّم» جرفَتْه الأمطار ونام أطفالٌ ونساءٌ في العراء في عز موسم الشتاء الماضي فلم نر ميشال سليمان أو حوت المال أو وزير الداخلية المحنَّط (الصنم) يشمِّرون عن أردائهم لمساعدة الفقراء، بينما «جبل النفايات» يقضم صيدا شيئاً فشيئاً رغم وعود السنيورة الكاذبة. لماذا؟ لأنَّ ساسة لبنان لا يعتمدون على أصوات الناخب المحلِّي في هذه الديمقراطية المذهبية التقاسمية العجيبة، ونقطة على السطر!
كل شيءٍ في البلد «خربان». أمره فُوِّض إلى بندر بن سلطان الذي يسعى إلى نصرٍما يُبرِّر كل هذه المليارات التي صُرفتْ لنحر سوريا، من دون طائل، في الوقت الذي يحتفل فيه شرفاء العالم بذكرى إنجاز المقاومة في مقارعة إسرائيل والإنتصار عليها في مثل هذه الأيَّام من سبع سنوات فكانت المعجزة الحقيقية، ما فتأ «إسرائيليو الداخل» يطعنون فيها ويحوِّلون النصرإلى هزيمة على طريقة فؤاد السنيورة بتاع ١١ مليار دولار المسروقة! رئيس مكلَّف ما شاء الله شهم صامد بأوامره البندرية، يريد أنْ يشكِّل حكومةً حيادية فقط لسببٍ وحيد هو منع «حزب الله» من دخولها، ولا نعرف إذا كان سيأتي بهؤلاء الحياديين من المرِّيخ ربَّما باعتبار أنه كان سابقاً زعيم حركة «روَّاد الفضاء»، ثم تخلَّى فجأةً عن فكرة حكومة «الأمر الواقع» لاستحالتها! أما سليمان فضربة على حافر المقاومة اليوم وضربة على مسمار «٨ آذار» غداً، مستمرَّاً في مواقفه التصعيدية ضد سلاح المقاومة مع التغطية الكلامية لذر الرماد في العيون وآخرها معاملة العدو الإسرائيلي في الامم المتَّحدة على عدوانه بأقل ما عوملت فيه سوريا!. هي مرحلة تقطيع وقت لأن بندر يريد المراوحة والقيام بالمزيد لهذا السبب بقي علي عواض «الأسيري» في مملكة العائلة!
لم يبقَ صغير أو كبير أو «مقمَّط بالسرير» إلا وصوَّب نيرانه على فترة «الاحتلال السوري» خصوصاً عتاة «١٤ عبيد زغار»، أكبر المستفيدين من خيرات وأفضال سوريا. لكن الناظر لحال البلد اليوم يتذكَّر تلك الحقبة ويتحسَّر لأنه، على الأقل، كانت هناك «دولةً» ولو بالشكل وكانت الحلول ٰتجترح وأمور الناس تُسيَّر. أمَّا اليوم، فلا يمون سياسي على شيء ولا حتى على زوجته (جعجع وستريدا مثالاً) والبلد فلتان وعلى شفا حُفرةٍ من الهاوية! بلد فاقد للسيادة ومُباع للخارج لا يقدرعلى وضع الحلول من دون مساعدة خارجية وهذا تاريخ لبنان يشهد على ذلك منذ فتنة ١٨٦٠ إلى المتصرِّفية ثم القائمقاميتين.
ولكن رغم أماني بندر فإنَّ المخطط المرسوم بعناية بدأ يتهاوى. أولاً في «عبرا» كان المقصود باستعمال الأسير بن لادن الإرهابي، كف يد الجيش اللبناني في الداخل وشلِّه عن القيام بوظيفته وإطلاق تيار فتنوي سلفي دوره إلهاء المقاومة وضربها من الخلف. وبعد تجاوز القطوع جاءت الصواريخ ومتفجرة الضاحية لتصبَّ في نفس الهدف فلم ينجر شعب المقاومة للفتنة. ثم بدأت مجازر اللاذقية في سوريا من قبل التكفيريين الجزَّارين فانقلب السحر على الساحر حيث ولَّدت رد فعلٍ عكسي من قبل السُنَّة في الداخل الذين هربوا إلى مناطق اللاذقية مؤقتاً حتى لا يتركوا بلدهم فوجدوا خير الضيافة في الساحل السوري.
حتّى إسرائيل التي دخلت على الخط بفرقة كاملة من ١٠٠ جندي من قوات «النخبة» كانت متوجًّهة للقيام بعملية أمنية قد تكون اغتيال قادة المقاومة فوقعت في كمين العين الساهرة وأُصيبتْ من جديد بلعنة تحطيم أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»! كما أن أحداث مصر، وعلى الطريق تونس وليبيا اللتان بدأتا تلفظان التيار التكفيري الإخواني السارق للربيع الثوري العربي، وسقوط الحَمَدين في قطر قلب الموازين، ثم عملية خطف الطيارين التركيين التي زادت الطين بلة وأحرجت تركيا المشاركة في المؤامرة على سوريا، جاءت كلها لتزيد من إحباطات مؤامرة بندر.
وقد بيَّنت عملية الخطف، التي هي من حيث المبدأ مرفوضة تماماً ولو كنَّا مع الخطف لَما استنكرنا بشدَّة خطف الحجَّاج اللبنانيين في «أعزاز»، هشاشة وضعف الدولة اللبنانية وجُبنها أمام الدول. فتركيا جنَّدت وزارة خارجيتها وباشر المسؤولون فيها بالاتِّصال بلبنان مهدِّدين بعد أن كانوا لا يردُّون عليهم وجنَّدوا حتى ايران وطلبوا من «حزب الله» المساعدة في الإفراج عن مواطنَيْها. أمَّا عندنا فقد دبَّج السنيورة وقرطة حنيكر أهم البيانات للإفراج عن التركيَّيَن ولم يكلِّفوا أنفسهم عناء الضغط على حلفائهم في سوريا للإفراج عن اللبنانيين. إنَّ حياة الحجَّاج اللبنانيين تساوي ألف مرة علاقات السنيورة وجماعته المالية مع تركيا وكل الذي خلَّف أردوغان وغول وأوغلو!
لقد عانى أهالي المخطوفين طويلاً من دون أهلهم وبدل أنْ تكون قضيتهم وطنية جامعة عادت ميليشا «فرع» المعلومات إلى السمع بعد سباتٍ عميق لاعتقال محمد صالح وآخرين من أقارب المخطوفين، من دون أن نسمع منها ومن داتا الاتصال لديها عن الصواريخ الإرهابية ومتفجرة الضاحية والتسلُّل الإسرائيلي في «اللبونة»”، ومن دون القبض على علي الحجيري «أمير الجهاد» في عرسال الذي يشبه رجال المافيا، بعد الكمين الذي وقع في «اللبوة» بسبب تصرفه المافيوي وتورطه بالدم. بل إن كل الدولة عاملته كبطل وهنأه أركانها وسعد المغترب بالسلامة في حين كان يجب اقتياده مخفوراً كما فعل «الفرع» مع الوزير السابق ميشال سماحة، ذلك لأن المدَّعي العام العسكري صوان أصدر مذكرة توقيف بحقه وطلب له الإعدام لاتهامه في قتل الضابطين مشعلاني وزهرمان! نعم، فرع المعلومات فئوي مذهبي وفاتح على حسابه وتابع للتيار «المزرق» مثل مدير «أوجيرو» عبدالمنعم يوسف ومثل سهيل بوجي في مجلس الوزراء الباقي هناك بصورة غير قانونية، ومثل كل رجال الحريري الذين حرص الميقاتي على الحفاظ عليهم في مواقعهم عكس الضباط الأربعة الذين قضوا في السجن زوراً أربع سنوات!
لكن الأغرب في كل هذا الجنون هو استرتيجية السنيورة الدفاعية التي أطلقها في موقف رفع عتب ضد التسلل الإسرائيلي في «اللبونة» تضمَّنتْ الذهاب والاستجداء من جامعة الدول العربية والأمم المتحدة «لتنبيه إسرائيل» حول مغبَّة عملها! هذا الشخص غبي أو يستغبي الناس. وماذا نتأمل من السنيورة الذي كان يريد قطع رقبة المقاومة في حرب ٢٠٠٦؟! أما فتفت، فهو فخور بما فعل في مرجعيون، وجعجع لا يُحب المداهنة بشجب العدوان الإسرائيلي لأنه «تحصيل حاصل»! تحصيل حاصل أم ربما لا يريد إغضاب أسياد الأمس (والحاضر)؟!
في «شبه الوطن» للأسف هناك لبنانات وليس لبناناً واحداً فقط!
Leave a Reply