يتعرّض الرئيس الأميركي أوباما الآن لانتقاداتٍ كثيرة من جهاتٍ متعدّدة ومتناقضة أصلاً في مواقفها من الأوضاع الدامية في سوريا. فعلى المستوى الدولي، هناك من ينتقده لأنه أطلق التهديدات بالقيام بضربات عسكرية لسوريا دون الاستناد إلى مرجعية مجلس الأمن الدولي، وبأنه أوجد مناخاً شبيهاً بالذي اختلقته الإدارة السابقة لتبرير الحرب على العراق في العام 2003. أمّا على المستوى الداخلي الأميركي، فكانت الانتقادات تتراوح بين من هو ضدّ الضربات العسكرية من حيث المبدأ، وبين من هو ضدّ الحديث عن ضربات محدودة فقط ويريد تدخلاً عسكرياً واسعاً.
من وجهة نظري، فإنّ الرئيس أوباما أدار هذه القضية الساخنة حتّى الآن بحنكةٍ ودراية حيث تجنّب الحرب رغم قرع طبولها عالياً. ولا أعتقد أنّ إدارة أوباما كانت جادّة أساساً في مسألة التورّط العسكري الأميركي في سوريا، فلو كانت جادّة لما تأخّرت عن فعل ذلك طيلة العامين الماضيين، منذ صيف 2011، حينما جرت «عسكرة» الحراك الشعبي السوري من أجل دفع الأمور في سوريا إلى حال التدخّل العسكري الدولي، والذي كان ممكناً حدوثه في ظروفٍ أفضل لإدارة أوباما، ولم يحصل، رغم المطالبة به من أطراف سورية وعربية وإقليمية وأميركية.
من المهم أن نتذكّر دائماً ما قاله وزير الدفاع الأميركي «الجمهوري السابق»، روبرت غيت، الذي شغل منصب مسؤولية وزارة الدفاع في إدارة بوش الابن واستمرّ في موقعه خلال أول سنتين من إدارة أوباما الأولى، بأنّ «أي وزير دفاع أميركي يأتي من بعده، سيكون فاقداً لعقله إذا تورّط في حربٍ جديدةٍ بالشرق الأوسط».
فالرئيس أوباما حاول أن يجمع في الأيام الماضية بين إظهار مصداقية كلامه حول «الخط الأحمر» بشأن استخدام السلاح الكيميائي، وبين مصداقية وعوده للناخبين الأميركيين الذين دعموا وصوله للرئاسة نتيجة وقوفه ضدّ حروب الإدارة السابقة، ووعوده بعدم تكرار أخطائها بسياسة الحروب الانفرادية وتجاهل المرجعية الأممية في «مجلس الأمن». فهو قد حبس أنفاس العالم لعدّة أيام دون أن يُقدِم على أي ضربة عسكرية. كما جعل أميركا والعالم كلّه أمام احتمال حرب واسعة في الشرق الأوسط يعرف الجميع كيف ستبدأ، لكن لا أحداً يعرف كيف ستنتهي. وفي وسط هذا «التسخين» الإعلامي والسياسي، أدرك الرأي العام الأميركي والأوروبي خطورة دعوات بعض السياسيين المحليين للتدخّل العسكري المباشر، كما كان يفعل في السنتين الماضيتين السناتور جون ماكين وعددٌ آخر من السياسيين والكتّاب الأميركيين.
وقد استطاع أوباما في الأيام الماضية أن يُحوّل «المطرقة» التي كانت فوق رأسه، نتيجة عدم تدخله عسكرياً في سوريا، إلى «سيف» بيده ضدّ خصومه في الداخل الأميركي والخارج الدولي. فإدارة أوباما تدرك تبعات هذا التدخّل لو حصل حتّى بضرباتٍ محدودة، إذ كيف سيكون الردّ الأميركي لو جرت ردود فعل عسكرية على الضربات المحدودة من أي جهة مخاصمة للولايات المتحدة في أي مكان؟! ألا يعني ذلك تورطاً عسكريا واسعاً وإشعال الشرق الأوسط كلّه في حروبٍ مدمّرة؟!
ربّما يكون أقرب للعقل والمنطق رؤية ما حدث في الأيام الأخيرة بأنّه كان مناورة سياسية وإعلامية كبيرة حقّقت عدّة أهداف، وما زالت تفعل فعلها، دون الوصول إلى مرحلة التدحرج من حافّة الحرب التي يجد العالم الآن نفسه عليها.
وقد حقّقت إدارة أوباما، حتّى الآن، جملة مكاسب من هذه «الحرب الإعلامية والسياسية»، فهي أظهرت للعالم أنّ أميركا ما تزال حاضرة بثقلها العسكري، وأنّها قادرة على هزّ أركان العالم كلّه، إضافةً إلى تحقيق مكاسب سياسية مباشرة، منها:
التجاوب مع ما عليه الرأي العام الأميركي بشقّيه المعارض للحرب والداعي لها. فمن يريد التدخل العسكري الأميركي وجد موقف أوباما في “تسخين الأجواء” مناسباً له ولرغباته. ومن هو ضدّ تورطٍ عسكري أميركي تنفّس الصعداء حينما قرّر أوباما العودة إلى مجلسيْ النواب والشيوخ قبل تنفيذ قراره بالقيام بضرباتٍ عسكرية ضدّ سوريا.
أظهر أوباما التزاماً بكلامه حول «الخط الأحمر» في سوريا، وجعل من مسألة استخدام الغازات الكيميائية القضية الدولية الأهم رغم أنّ عدد ضحايا الحرب السورية (التقليدية) قد تجاوز المئة ألف!.
الردّ على كل منتقدي الإدارة في السابق، والذين اتّهموها بالضعف وعدم المصداقية وبإلحاق الضرر بسمعة الهيبة العالمية الأميركية، وفي مقدّمة هولاء السناتور ماكين الذي كان قاسياً جداً على أوباما قبل التحرّك الأخير. ونجد الآن أنّ الرئيس أوباما قد وضع مسألة التدخل العسكري الأميركي كلّها تحت مسؤولية الكونغرس بمجلسيه، فإذا وافقهُ الكونغرس على الضربات العسكرية يصبح أعضاؤه هم المسؤولون عن أيّة تداعيات قد تحصل بعد الضربات، وإذا لم يؤيّد الكونغرس حدوث هذه الضربات فلا أدنى عتبٍ أو انتقاد يكون مشروعاً بعد الآن.
***
إنّ كلّ ما سبق ليس بعذرٍ مقبول لهذا التوتّر الدولي الذي حصل في الأيام الماضية، فالسؤال ما زال قائماً حول الجهة التي استخدمت الغازات السامة في غوطة دمشق، كما في خان العسل سابقاً، ومن المستفيد الآن من فعْل ذلك. ثمّ لماذا استبعاد وجود «طرف ثالث» غير الحكومة السورية وغير «الإئتلاف الوطني السوري» المعارض، ولماذا لا تكون قوى متطرّفة متعاونة مع «جماعات القاعدة» هي وراء استخدام الغازات السامة، ففي ذلك مصلحة مزدوجة لهذه القوى، حيث سيتحارب «أعداء» هذه الجماعات بعضهم ضد بعض، ويكون ذلك مساعداً لتوسّع هذه الجماعات على الأرض السورية. وكانت المحققة الدولية كارلا ديل بونتي قد أشارت إلى مسؤولية اطراف من المعارضة في تقريرها خلال شهر أيار (مايو) الماضي بعد التحقيقات الأولية التي حصلت بشأن منطقة خان العسل.
أيضاً، لماذا تجاهُل المصلحة الإسرائيلية واحتمال دور المخابرات الإسرائيلية والمتعاملين معها من السوريين والعرب على الأراضي السورية في استخدام السلاح الكيميائي، وهو أمرٌ سهل على جماعات مسلّحة أن تفعله كما حصل في أنفاق مترو طوكيو. فإسرائيل لا يمكن أن تقف متفرّجة على تقدّم القوات الحكومية السورية في معظم المناطق، وهي تدخلت عسكرياً في العامين الماضين ضدّ القوات الحكومية، وهي لن تسمح بأن تنتهي الحرب في سوريا لصالح النظام وحلفائه الإقليميين والدوليين، وما قد يعنيه ذلك من خطر أمني على إسرائيل نفسها، ومن فشل المراهنة على توسيع الحرب الأهلية في سوريا لتشمل كل دول المشرق بحيث تسقط كيانات وأوطان عربية، وليس فقط أنظمة حكمٍ هنا وهناك.
طبعاً هناك أيضاً مصلحة أميركية في استمرار الأزمة السورية لصالح خصوم أميركا في المنطقة والعالم، وهذا ما يتعمّد إثارته أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة، لكن لا مصلحة أميركية الآن في التورّط العسكري في الشرق الأوسط، ولا في تأزيم الأمور أكثر مع روسيا والصين وقوى دولية أخرى. فإدارة أوباما تُدرك أيضاً أنّ حكومة نتنياهو تعمل منذ العام 2009 على تحقيق مواجهة عسكرية أميركية مع إيران وحلفائها بالمنطقة، ولم تقع إدارة أوباما في السنوات الخمس بعدّة «أفخاخ إسرائيلية» وُضعت لخدمة هذا الهدف رغم وجود مؤيّدين له في الكونغرس الأميركي.
أمام إدارة أوباما فرصةٌ ذهبية الآن بأن تستثمر ما حدث في الأيام الأخيرة من تصعيد وتسخين في الأجواء من أجل تحقيق تفاهماتٍ دولية، ومع موسكو تحديداً، حول مؤتمر «جنيف 2» الذي لم يتحدّد بعد، ولكي تحصل تسويات سياسية لأزماتٍ عديدة في الشرق الأوسط، وعندها لن يشمت التاريخ بلجنة «جائزة نوبل» التي منحت الرئيس أوباما جائزتها، وما مضى على عمره في الحكم إلاّ أسابيع معدودة!.
Leave a Reply