زاد التهديد بعدوان أميركي متحالف مع دول اوروبية وعربية على سوريا من تعطيل المؤسسات الدستورية في لبنان، وتعميق أزمته الداخلية، وتدهور وضعه الأمني، والقلق من إنفجار حرب أهلية، وتفاقم الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي وصلت الى أن أرباب العمل يلجأون الى الإضراب كما فعلت الهيئات الاقتصادية وباتت تنافس الموظفين والمعلمين والعمال على التهديد بوقف العمل.
فبات الوضع اللبناني الداخلي مرتبط بالأزمة السورية ولا فكاك عنها، بالرغم من قول المسؤولين في لبنان، أنه ينأى بنفسه عما يجري في سوريا، والدعوة الى عدم التدخل في شؤونها والإلتزام بـ«إعلان بعبدا» الذي صدر عن طاولة الحوار قبل عامين في القصر الجمهوري بأن يلتزم اللبنانيون بالحياد عن الأحداث السورية وامتناع الدخول في محاور خارجية، لأن من شأن ذلك تعقيد الأزمة السياسية الناجمة عن الإنقسام العامودي بين القوى السياسية والحزبية اللبنانية بين محوري 8 و14 آذار، اللذين يتقاسمان الشارع اللبناني منذ العام 2005، بين ما هو مؤيد للمقاومة وسلاحها وبين ما هو رافض لوجود السلاح خارج إطار الدولة والجيش اللبناني.
وقد توسع الشقاق بين اللبنانيين على ما يجري في سوريا بين مؤيد للنظام وآخر معارض له، فانخرط كل طرف على طريقته في الصراع السياسي والعسكري مع هذا الفريق أو ذاك، الى أن بدأ يترجم على الأرض اللبنانية بإطلاق الصواريخ وتفجير العبوات والسيارات المفخخة، الى حملات التحريض والتعبئة السياسية والمذهبية والفئوية، ودخل لبنان في حرب محاور عربية وإقليمية ودولية، تفرض وجودها في السياسة والأمن كما في عمل مؤسسات الدولة التي بدأت تطالها لوثة التشرذم السياسي والطائفي، ووصلت الى الأجهزة العسكرية والأمنية، من خلال «تطييف» أو «تمذهب» هذا الجهاز أو تلك المديرية أو الشعبة، فيصبح الأمن العام للشيعة، وشعبة المعلومات للسنّة، وجزء من مخابرات الجيش للشيعة، وجزء منها للمسيحيين، كما أن الشرطة القضائية للدروز، بحيث يتمّ التصنيف وفق طائفة ومذهب رئيس الجهاز والجهة السياسية والحزبية التي عينته، وهذا أخطر ما يمس الدولة ووحدة مؤسساتها، وأن يتم التشكيك بالجيش من قبل أطراف إسلامية سنّيّة على أنه ينسّق مع «حزب الله»، في حين أن أطرافاً أخرى سواء شيعية أو تنتمي لقوى «8 آذار» لا تثق بقوى الأمن الداخلي وشعبة معلوماتها لأن قيادتها تابعة سياسياً لـ«تيار المستقبل»، أو يتمّ انتقاء قادتها وضباطها من الموثوقين سياسياً من هذا التيار، كما كان هذا الوضع قائماً في مرحلة الثنائي اللواءين أشرف ريفي والشهيد وسام الحسن.
هذه التطورات تقلق اللبنانيين على أمنهم عندما تبدأ الثقة تنعدم بالمؤسسات الأمنية، كما بين المؤسسات أنفسها، وهذا ما ظهر في سراي صيدا، حيث تواجه فرع المعلومات وقوى الأمن الداخلي مع الجيش ومخابراته، تحت عنوان إجراءات أمنية اتخذها العقيد سمير شحاده الذي عُيّن مؤخراً قائداً لقوى الأمن الداخلي في الجنوب، وهو شغل منصب رئيس فرع المعلومات عام 2005، وتركه إثر تعرضه لمحاولة اغتيال بتفجير موكبه في الرميلة على الطريق الساحلي بين بيروت وصيدا عام 2006، فانتقل الى الإقامة في كندا الذي أمضى فيها حوالي ست سنوات ليعود الى لبنان، ويتم تشكيله الى صيدا بعد أحداث عبرا التي حسمها الجيش لجهة اجتثاث ظاهرة الشيخ أحمد الأسير التي كادت أن توقع قتنة سنّيّة-شيعية في صيدا وحارتها والجوار.
فالوضع السوري رفع من الإهتراء داخل الساحة اللبنانية التي عادت الى «مربعات الأمن الذاتي» و«الإمارات الإسلامية»، وهو ما بدأ يؤثر على الوفاق الوطني الذي لم تنفع مبادرة أطلقها الرئيس نبيه بري في ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر لإعادة الحوار الداخلي، وعقد خلوة في القصر الجمهوري بين القوى السياسية لإنتاج وثيقة داخلية تقرّب بينها حول النقاط والقواسم المشتركة تفتح الطريق أمام تشكيل حكومة سياسية جامعة تمثل كل الأطراف. لكن هذه المبادرة تمّ وأدها كما غيرها، حيث قام النائب وليد جنبلاط بمحاولة لجمع 8 و14 آذار على قواسم مشتركة فلم ينجح، كما فشل رئيس الجمهورية في إعادة إحياء طاولة الحوار، ولم تحرك استقالة الرئيس نجيب ميقاتي من رئاسة الحكومة وتكليف الرئيس تمام سلام تشكيل أخرى جديدة، وهو الذي حاز على إجماع 124 نائباً، في جمع اللبنانيين بحكومة واحدة، لا بل أن الشروط المتبادلة التي وُضعت أمام تأليف الحكومة برفض مشاركة هذا الطرف أو وضع «الفيتوات»، مما أخّر في صدور مراسيمها بعد ستة أشهر على التكليف الذي جاءت تطورات الوضع السوري «لتفرمل» حركة التشكيل، بعد أن أطفأ الرئيس المكلّف محركاته بشأن التأليف الذي قطع الوقت المتوقع لولادة حكومة في لبنان، إذ مضى ستة أشهر، ومازال سلام في المربع الأول عندما طرح حكومة من ثلاث ثمانات (8+8+8)، والتي لاقت رفضاً من «8 آذار» و«التيار الوطني الحر»، لأن هذه الصيغة لا توازي حجمهم النيابي، في حين قبلت قوى «14 آذار» بها مع رئيس الجمهورية والنائب وليد جنبلاط.
ولم تنفع كل محاولات تدوير الزوايا إذ بقي كل طرف عند موقفه، كما لم تبذل السعودية الدعم اللازم للخروج من الأزمة الحكومية التي تعثرت أكثر مع إعلان «حزب الله» مشاركته في معارك القصيّر بريف حمص الى جانب النظام السوري، مما زاد من تعقيد التأليف الذي بات مرتبطاً بحصول تحول في الوضع السوري لجهة انتصار فريق على فريق، وهذا أمر صعب لا بل مستحيل الحصول، بسبب التدخلات في الأزمة السورية، التي رفع من منسوب حدتها القرار الأميركي باستهداف النظام السوري بذريعة استخدام السلام الكيميائي ضد معارضيه، وانقسام العالم حول الضربة على سوريا، مما هدّد بانفجار عسكري واسع في المنطقة، وشمول الحرب مناطق ودول في العالم، مما قد يحولها الى ثالثة، والتي لجمتها مبادرة روسية بوضع السلاح تحت الرقابة الدولية بموافقة سوريا التي تم ربط ازمتها بالأزمة اللبنانية وبما ستؤول إليه الأحداث فيها، إذ راهن فريق «14 آذار» على أن شن حرب خارجية على سوريا سيقلب موازين القوى الداخلية لصالح المعارضة السورية، وهو ما سيضعف حلفاء النظام السوري في لبنان، وفي طليعتهم «حزب الله» الذي يتبادل مع قوى «14 آذار» الاتهامات، بشأن تعطيل وعرقلة تشكيل الحكومة لحسابات خارجية، بحيث أن تأثير الخلافات الخارجية تفرض نفسها على ولادة الحكومة، وأن استمرار العلاقات السعودية- الإيرانية متوترة هو ما سمح لكل فريق أن يتمسك بشروطه ويرفض تقديم تنازلات، إذ أن السعودية لا تقبل تحت أي ظرف تمثيل «حزب الله» في الحكومة، وقد سعى النائب وليد جنبلاط الى تليين موقفها فلم يوفق، لأن رئيس المجلس الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان لم يتجاوب مع فكرة أن يكون «حزب الله» حليف الرئيس السوري بشار الأسد في القتال بسوريا، شريكاً في حكومة يكون فيها «تيار المستقبل» فأوعز الى الرئيس سعد الحريري أن يرفض حكومة فيها «حزب الله» وخيّر النائب وليد جنبلاط بين أن يكون مع حكومة لا يتمثل فيها «حزب الله» أو لا يكون حليفاً للسعودية التي يجهد لإستعادة علاقاته معها، بعد أن قطعت عنه الموارد المالية التي شحت لديه، وهو حائر بين تغيير خياراته كما قال في أحد تصريحاته ويماشي الرئيس سليمان والرئيس سلام بحكومة أمر واقع وينال رضى السعودية ودعمها المالي، أو يذهب الى مواجهة مع «حزب الله»، ففضل التريث لعلها تأتي اللحظة الإقليمية والعربية التي تخرجه من هذه المفاضلة.
فالأزمة في لبنان بكل تشعباتها السياسية والأمنية والاقتصادية، باتت متوقفة على ساعة توقيت الازمة السورية، التي على اللبنانيين أن يضبطوا ساعاتهم عليها سواء عند حصول تفجير لسيارة مفخخة أو وقوع إشكال أمني بين موالين للنظام أو معارضين له، أو في العلاقة مع الدول العربية والأجنبية، أو في لقمة عيش اللبنانيين.
إنه وقت تغيير الأنظمة، فهل يحفظ لبنان رأسه؟
Leave a Reply