نعم، وأنا في المنقلب الثاني من العمر، أحنُّ إلى خبز أمي، خبز أمي الطيب المعجون بيديها البيضاء، الصغيرتين، الناعمتين الطاهرتين دوماً قبل أن تلمس الأكل أو الشراب.
في أيلول، قبل ثلاث عشرة سنة، توفيت أمي في لبنان آثرت الرحيل في شهر تستعد الطبيعة فيه للهدوء والتهيؤ للشتاء والمطر. وهكذا كانت أمي، مثقلة مثل الفصول، أحياناً أراها مشرقة محبة ومعطاءة، وأحياناً أخرى غاضبة وخانقة وموَلوِلة من هول المسؤوليات والواجبات التي ألقيت عليها. وفي مرات أخرى، تجدها هادئة مستكينة، مستسلمة للقدر الذي قسى وجار عليها كثيراً.
أنظر الآن في هدأة الأيام، بعدما انقضى نزق الشباب والتمرد الفارغ، وبعد أن أصبحت أماً وجدّة، تأكّدتُ من أنني كانت لي أمّ جميلة وذكية -وبدون شك- كانت تحبني، ولكن للأسف مهما قلت ومهما فعلت فلن أستطيع أن أسامح نفسي على كل ما فعلته بها وسببته لها عن جهالة وقلة معرفة، وقلب أعماه العناد والتمرد. وكلما إسترجعت مواقفي معها وأنا شابة صغيرة، وكيف كنت أتعمد البعد عنها -فكنت أنا في وادٍ وهي في وادٍ آخر. وكلما سنحت لي الفرصة أحاول مضايقتها، وأتجاهل وجودها، وفي أحيان عديدة أفعل كل ما يسبب لها الإزعاج ويشعرها بالألم والحزن.
أذكر أمي ليلا نهاراً، وأبكي كلما إسترجعت مواقفي السابقة البعيدة معها، وكيف كانت تصمت أحياناً، وأحياناً تعاتبني، وأحياناً تنهرني بصوت عالٍ. في أحيان كثيرة تعاقبني. لكن الذي أنا متأكدة منه، إنها كانت تبكي بحرقة وحيدة دون أن يسمع أحد بكاءها، تماماً مثل حالي عندما أبكي الآن بصمت وأعاني المرارة مع أولادي.
في سجودي إلى ربي، أدعوه أن يسامحني، وأطلب المغفرة بشدة رغم أني قد لا أكون أستحقها. أتوسل إليه تعالى أن تسامحني أمي، وأن أشعر بهذا التسامح.. لكن في قرارة نفسي، أدرك أني لن أجد الراحة لقلبي وعقلي.
أتمنى لو تعود أمي للحياة، ولو ليوم واحد، ولو لساعة واحدة فقط. أبكي فيها تحت قدميها، أعطيها كل حب عندي، وأقبل يديها الصغيرتين، الناعمتين، وأرجوها لكي تسامح تقصيري وجهلي وإسرافي في أيامي الغابرة.
يعلم الله أني أذنبت عن جهالة وعناد ورأس يابس.
لازلت أذكر أمي عندما وضعت ولدها التاسع، عندما نظرت إلى السماء رافعة يديها بإستسلام وإنكسار وقالت: يا الله أنا بحاجة لأم أكثر من هذا الطفل، «يارب كفى، أنا إمرأة ضعيفة وقليلة الحيلة، مابقا بدي أولاد، دخيلك يارب».
إنكسار نظرتها وإستسلامها الهادئ للقدر القاسي. معاناة مع تسعة أولاد كانت هماً كبيراً.. أكبر من أن تتحمله أمي الضعيفة.
عندما أسترجع تلك الأيام، أيام الفقر والبؤس والبساطة، أدرك جيداً أن أمي -الله يرحمها- بالفعل كانت بحاجة الى أم أكثر منا -نحن فريق كرة القدم- أولادها، وفي أحيان كثيرة -للأسف- كنت ألومها لهذا السبب.
كانت تعترف دوماً وتقول إنها ليست طباخة ماهرة. لكني لازلت أحنّ إلى أرغفة خبزها اللذيذ، وإلى «البعقات» الطيبة الشهية والتي تصنعها من طحين وسكر وسمسم ويانسون. كانت ألذّ «بعقات» في الدنيا.
الله يرحمك يا أمي وعسى تكوني إرتحت من عذاب الحياة وعوّض الله تعبك وصبرك جنة عالية. إرضِ عني يا أمي. ويا الله تقبل توبتي فأنت الحكيم البصير الغفور. وساعدني لأكفّر عن ذنبي بالدعاء لها وإخراج الصدقات عن روحها. وأتمنى أن تكون هذه الكلمات موعظة لكل من له أم لازالت على قيد الحياة، وفرحان بصفات العناد والتمرد، أن يفعل كل ما بوسعه إرضاءً أمه حتى لا يندم مثلي، بعد فوات الأوان.
Leave a Reply