منذ الإستقلال، لم ينجح لبنان في التخلص من وجود وصي خارجي عليه، وقد يكون تطبع بزمن المتصرفية، عندما وُضعت طوائفه ومذاهبه في القرن التاسع عشر، بعهدة الدول السبع، والتي شكّلت معبراً لها للدخول الى نفوذ السلطنة العثمانية من باب جبل لبنان الذي حدثت في بعض مناطقه أحداث دامية أخذت طابعاً طائفياً بين الدروز والمسيحيين امتدت على مدى عشرين عاماً، من 1840 الى 1860، وتمّ في ذلك الزمن ابتداع الطائفية السياسية والتأسيس للنظام الطائفي، من خلال تعيين قائمقام درزي على جبل لبنان الجنوبي وآخر ماروني على القسم الشمالي منه.
وكان رئيس الجمهورية الراحل إلياس الهراوي يتحدث عن لبنان الذي يشبه المريض الموضوع في العناية الفائقة، كما أن هناك مَن وصف البلد الجميل بـ«سويسرا الشرق» الذي تغنّى به الشعراء واعتز به السفراء ولاذ إليه الفلاسفة، ووصفوه بـ«جنة الله على الأرض»، لكن أبناءه حوّلوه الى جهنم بصراعاتهم الطائفية واقتتالهم المذهبي وجشعهم الى السلطة ومغانمها.
فتكوين لبنان بحدوده السياسية الحالية، كان نتاج قرار استعماري فرنسي أصدره الجنرال غورو في العام 1920، ودستوره كان نسخة عن دستور «الجمهورية الثالثة» في فرنسا، ورؤساء جمهورياته كانوا من صناعة فرنسية حتى العام 1943، عندما تدخل البريطانيون وأوصلوا بشارة الخوري رئيساً للجمهورية وأقالوا إميل إده رجل فرنسا في لبنان.
وهكذا بدأ تاريخ لبنان الحديث بالوصاية الأجنبية، وما قيل عن أن رئيس الجمهورية يُصنع في الخارج مازال صحيحاً، منذ أول رئيس بعد الاستقلال حتى الرئيس الحالي ميشال سليمان الذي كان انتخابه نتاج قرار مصري- قطري-سعودي-فرنسي-أميركي، وتأييد سوري-إيراني.
وكل أزمات لبنان كانت لها أسبابها الداخلية إنما كانت مرتبطة بقرارات خارجية، وتأتي الحلول لها من الخارج، حيث واجه لبنان أول أزمة له في العام 1952، عندما قامت «ثورة بيضاء» بوجه الرئيس بشارة الخوري الذي تمّ التجديد له بعد انتهاء ولايته الأولى عام 1949، فلم يكملها، إذ واجهته معارضة داخلية مدعومة من سوريا ونالت تأييد بريطانيا التي استبدلت أحد رجالاتها، الخوري، بآخر هو كميل شمعون، الذي حاول التجديد لولاية ثانية، فاصطدم برفض داخلي له نواته صائب سلام وكمال جنبلاط وصبري حمادة ورشيد كرامي وعبدالله اليافي واحمد الاسعد والبطريرك المعوشي إلخ… وقد جاءت الممانعة لبقاء شمعون في القصر الجمهوري لأنه إلتحق بمحور عُرِف بـ«حلف بغداد» ضمّ إيران التي كان يحكمها الشاه، وعراق الملكية وتركيا الأطلسية، في مواجهة الناصرية كتيار عروبي أطلقه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وأدّى صراع المحورين على أرض لبنان، الى اقتتال أهلي، في نهاية عهد الرئيس شمعون في صيف 1958، وتخوّف الأميركيون من أن يسقط لبنان في قبضة عبدالناصر ويضمها الى «الجمهورية العربية المتحدة» التي ضمت مصر وسوريا، مما دفعهم الى إنزال قواتهم عند الشواطئ اللبنانية، كي لا ينهار الحكم الشمعوني الموالي لهم بعد سقوط حكم الملكية في بلاد ما بين النهرين وسقوط نوري السعيد من رئاسة الحكومة، ووصول عبد الكريم قاسم الى السلطة مدعوماً من الشيوعيين والقوميين العرب، فخافت إدارة الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور أن يسقط العالم العربي في يد المعسكر الشرقي الذي كان يقوده الإتحاد السوفياتي آنذاك، فأنزل قواته البحرية (المارينز)، ليحمي الرئيس شمعون الذي انتهى عهده بحرب داخلية، لم يوقفها إلا اتفاق الرئيس عبد الناصر والموفد الرئاسي الأميركي ريتشارد مورفي الذي أوصى بانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، ودخل لبنان في عصر الاتفاق الأميركي- المصري وعرف الاستقرار الى أن حصلت حرب عام 1967 بين الأنظمة العربية والعدو الإسرائيلي وانتهت بهزيمة للجيوش العربية، فكان الرد بظهور الكفاح المسلّح الفلسطيني الذي تمركز في جنوب لبنان بمنطقة العرقوب المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة، مما تسبب بصدامات مع الجيش اللبناني وإشكالات بين المخيمات الفلسطينية وجوارها، بعد أن حوّلتها المنظمات الفلسطينية الى مسلحة، فأدّى ذلك الى إضعاف وجود الدولة التي رضخت بعد معارك عسكرية بين الفصائل الفلسطينية والجيش والى اتفاق القاهرة الذي شرّع الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، في العام 1969، مما استدرج ردود فعل من أحزاب يمينية ذات طابع مسيحي كالكتائب والوطنيين الأحرار، دعت الى التدريب والتسليح، فواجهتها أحزاب يسارية وناصرية وقومية عربية مؤيدة للمقاومة الفلسطينية وحاضنة شعبية إسلامية في أكثريتها سنّيّة، مما زاد من الشرخ الداخلي اللبناني، أنتج حرباً أهلية بدأت في العام 1975، ولم تتوقف إلا في العام 1990، بعد اتفاق الطائف الذي كان نتاج قرار دولي-إقليمي-عربي، بأن لا يكون لبنان ساحة حروب آخرين على أرضه، لاسيما مع سقوط الإتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة بين القطبين الرأسمالي والشيوعي، فدخل لبنان منذ العام 1990 حتى العام 2005، بوصاية سورية عليه، بتأييد أميركي وسعودي، شاركت السعودية في السلطة عبر الرئيس رفيق الحريري في رئاسة الحكومة، وأخذت أميركا من النظام السوري موافقته على حضور مؤتمر مدريد للسلام بين إسرائيل والأنظمة العربية، وقد استعجلت أميركا برئاسة جورج بوش الأب انعقاده بعد تحرير الكويت من الجيش العراقي والتي كان الجيش السوري من ضمن قوات التحالف التي خاضت الحرب ضد قرار الرئيس العراقي صدام حسين، الدخول الى الكويت وإسقاط حكم آل الصباح فيه، وضمّ هذه المحافظة الى المحافظات العراقية الأخرى.
شكّل اتفاق الطائف وقبله اتفاقا القاهرة والرياض في نهاية العام 1977، مرحلتين للسلام الأهلي في لبنان، وقد سقطا مع انتهاء مفعول كل واحد منهما، بسبب الظروف العربية والإقليمية والدولية، فانهار السلم الأهلي في لبنان، بعد ذهاب الرئيس المصري أنور السادات الى القدس المحتلة في العام 1978 وتوقيع معاهدة سلام مع الكيان الصهيوني، فاستعاد لبنان حربه الأهلية التي أوقفها الإجتياح الإسرائيلي عام 1982، بطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وتوزيع فصائلها المسلّحة على عدد من الدول العربية، إلا أن الغزو الصهيوني للبنان وتنصيب بشير ثمّ أمين الجميّل رئيسين للجمهورية، أعاد الصراع الداخلي بين اللبنانيين وتدخلت أميركا عبر موفدها فيليب حبيب والسعودية عبر مندوبها الأمير بندر بن سلطان ثمّ سعود الفيصل ومعهما رفيق الحريري الى إقامة حوار لبناني بين القوى المتصارعة في لوزان ثمّ جنيف، نتج عنهما اتفاق تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة رشيد كرامي وشارك نبيه بري وجنبلاط وعادل عسيران وعبدالله الراسي عن «جبهة الخلاص الوطني»، وكميل شمعون وبيار الجميّل عن «الجبهة اللبنانية»، بعد أن تمّ إسقاط «اتفاق 17 أيار» وحصلت «انتفاضة 6 شباط» في العام 1984، وتغيّرت موازين القوى الداخلية لصالح سوريا وحلفائها في لبنان، بعد إنهاء إفرازات الإحتلال الإسرائيلي الذي تلقى ضربات موجعة من المقاومة الوطنية اللبنانية، مما اضطره الى الإنسحاب من عدد من المناطق اللبنانية، بعد أن فقد غطاءه الدولي بانسحاب القوات المتعددة الجنسيات الأميركية والفرنسية والإيطالية…
ففي كل مراحل أزمات لبنان، كان لا بدّ من تدخل خارجي وحوار بين اللبنانيين برعاية خارجية للتوصل الى تسوية واتفاق، حيث لم يحصل في تاريخ لبنان منذ استقلاله، أن استطاع اللبنانيون أن يحلوا أزماتهم فيما بينهم، أو أن يوقفوا حروبهم بإرادتهم، وحتى بعد الإنسحاب السوري من لبنان والذي اعتبر فريق من اللبنانيين أن الوجود السوري عائق أمام اتفاقهم فيما بينهم، فإنه وبعد أيام على الخروج السوري في 26 نيسان 2005، تدخلت الإدارة الأميركية لإقامة تحالف رباعي انتخابي ضمّ حركة «أمل» و«حزب الله» من جهة و«تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي من جهة ثانية، لأن الرئيس الأميركي جورج بوش كان يريد إجراء انتخابات نيابية في لبنان لتعزيز نظريته بنشر الديمقراطية في لبنان، ففرض تحالفاً بمباركة السعودية وإيران وفرنسا ورضى سوريا عليه، إلا أن هذا التحالف انهار بعد العدوان الإسرائيلي صيف 2006 على لبنان، لينقسم اللبنانيون ويخوضون حربا أهلية باردة فيما بينهم باشتباكات وأحداث «7 أيار» 2008 لم تتوقف إلا بعد تدخل قطر وجمع الأطراف المتصارعة في الدوحة واستصدار اتفاق نتج عنه انتخاب رئيس الجمهورية ميشال سليمان وتشكيل حكومة وحدة وطنية، إلا أن هذا الاتفاق سقط مطلع عام 2011 باستقالة وزراء «حزب الله» و«أمل» و«التيار الوطني الحر» من الحكومة التي كان يترأسها سعد الحريري، فخلفه نجيب ميقاتي بحكومة شعر فيها فريق «14 آذار» أنه مغلوب وبدأ يضغط لاستقالة الحكومة ففعلها ميقاتي وقدم استقالته في اذار من هذا العام عله يعود برضى السعودية، بعد أن أبعدت الأحداث في سوريا الحكم فيها عن الوضع الداخلي اللبناني، وعادت الرياض الى لبنان من خلال تكليف تمام سلام برئاسة حكومة يشكلها من دون «حزب الله»، وتكون حيادية، إلا أن مهمته هذه لاقت صعوبات داخلية، بعد أن رفض «حزب الله» استبعاده من الحكومة، بقرار خليجي وأميركي وأوروبي، وتضامن معه الرئيس بري والنائب ميشال عون، ووقف النائب وليد جنبلاط يستقرئ التطورات في سوريا والمواقف السعودية والأميركية، وكاد أن يوافق على حكومة يوافق عليها رئيسا الجمهورية والحكومة المكلّف وتفرض كامر واقع، لكنه فرمل موقفه، وأعاد التأكيد على مشاركة «حزب الله».
وهكذا دخل لبنان في طريق مسدود لأزمة تعصف به دستورياً وسياسياً وتواكبها إنفجارات وإشكالات أمنية، وهزات اقتصادية واجتماعية، في وقت لا أحد في الخارج يلتفت الى الوضع اللبناني الذي كل ما تتمناه الدول لاسيما الكبرى هو الحفاظ على استقراره، وهذا بات مفقوداً، فتقدم الرئيس بري بمبادرة انقاذية هي خارطة طريق لحل يُصنع في لبنان، يقوم على توافق حول عناوين خلافية سياسية، تُعقد لها طاولة حوار في بعبدا برئاسة سليمان الذي تمسك بإعلان بعبدا، وفسّره مؤخراً بأنه لا يتضمن وقف أعمال المقاومة، علّه يفتح الباب أمام تشكيل الحكومة التي يتشبث فريق «14 آذار» بعدم مشاركة «حزب الله» فيها وبتأييد سعودي.
ويحاول الرئيس بري أن يعيد العمل بالحوار الداخلي الذي كان افتتح طاولته في مطلع آذار 2006، وهو كان منذ ذلك التاريخ يعرف أن لبنان قادم على أيام سوداء، إذا لم يحصّن ساحته الداخلية، وقد شهد حروباً داخلية باردة، كانت توقفها تدخلات خارجية، أما وأن أغلب الدول العربية تعيش حروبها الداخلية، فلا بدّ من حوار لبناني داخلي يُخرج اتفاقاً من بعبدا يصنعه اللبنانيون بأنفسهم، إذ يصر رئيس مجلس النواب على هذا الحوار الذي لا أحد يرفضه في لبنان، لكن كل طرف يحاول أن يكسب الوقت مع الرياح الساخنة التي تهب بالمحيط، في حين أن الوقت لا يعمل لصالح اللبنانيين الذين وصل الحريق الى منازلهم.
فهل تفيدهم إطفائية الرئيس برّي بانقاذ لبنان وتتجاوب الاطراف السياسية معه أم تلتهمهم النيران؟
Leave a Reply