إنتقم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوطنه وقوميته، أمام الإذلال الذي ألحقته الولايات المتحدة وحلفاؤها ببلاده في أفغانستان بفرض الإنسحاب على الجيش السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي، والذي أعقبه انهيار الإتحاد السوفياتي ومنظومته الإشتراكية، وخروج أميركا منتصرة على القطب الدولي الذي كان ينافسها في قيادة العالم وخاض معها حرباً باردة في أكثر من دولة، وساند حركات تحرير كانت تقاوم الإستعمار القديم والجديد.
إنتظر بوتين ربع قرن ليرد الاعتبار للإتحاد الروسي، وهو نازل الأميركيين وحلفاءهم من الأوروبيين والعرب وتحديداً الخليجيين منهم الى العثمانيين الجدد (الأتراك) بقيادة رجب طيب أردوغان، في سوريا التي لبست قاعدة عسكرية في طرطوس بالنسبة للروس توصلهم بالمياه الدافئة التي طالما حلِم بها قياصرة الإمبراطورية الروسية في القرون السابقة، بل أن بلاد الشام كلها هي منطقة استراتيجية لمصالح روسيا التي كانت تدافع عنها في دعمها للنظام السوري الذي وضعت خطاً أحمراً أمام منع سقوطه، وقد تعلّمت من ليبيا وما حصل فيها بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي وكيف تضررت المصالح الروسية فيها، وهي لن تكرّر الخطأ مرتين كما صرّح أكثر من مسؤول روسي. وقد استخدمت موسكو حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي لمنع استصدار قرار ضد سوريا لشن عدوان عليها لإسقاط النظام فيها، وقيام نظام بديل سيكون بيد الإسلاميين المتشددين، الذين ظهروا في المناطق التي ضعفت فيها السلطة السورية وسيطروا عليها، وهو ما أعطى حججاً أكثر للقادة الروس ليتمسكوا بمواقعهم ويتشبثوا بقناعاتهم في الحفاظ على الدولة السورية، التي إذا سقطت ستقوم مكانها «دولة إسلامية» ستشكّل خطراً على الأمن القومي الروسي، الذي يعاني منذ سنوات من العمليات الإرهابية التي تُشنّ على الدولة الروسية ومؤسساتها ومصالحها من قبل «إسلاميين متشددين» داخل روسيا وفي الشيشان وبلاد القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى ذات الأكثرية الإسلامية.
فالحرب التي تُشن على روسيا من قبل «القوى الإسلامية الظلامية»، تتشابه مع الحرب التي تشنها نفس «القوى التكفيرية» على سوريا، إذ دخلت الأزمة السورية في طور وتطور يختلفان عما بدأته، عندما كان معارضون للنظام يطرحون الإصلاحات من ضمنه، وهؤلاء عُرفوا بالمعارضة الوطنية السورية التي استجابت لدعوات الحوار، وتبنّت الإصلاحات التي عرضها النظام وهي تلبي ما يطرحه المعارضون الإصلاحيون الذين شاركوا في الانتخابات والاستفتاءات والسلطة، وهم لا يريدون تدمير الدولة السورية، لتقوم مكانها «خلافة إسلامية» تحكمها «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، وهما يستمدان فكرهما وأسلوب عملهما من تنظيم «القاعدة» الذي تحاربه أميركا في أفغانستان واليمن ودول أخرى وتسانده في سوريا لتدميرها.
لذلك رأى الرئيس الروسي أن يلتقط الأحداث السورية، ويفرض عودة بلاده الى الخارطة الدولية، بعد أحادية القرار الأميركي الدولي، وظهور ما عُرف بـ«القطبية الأحادية» للولايات المتحدة، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، حيث تمّ التنظير عن نهاية العالم للكاتب فرنسيس فوكوياما، مع سقوط النظرية الماركسية-اللينينية في عقر دارها، وبقاء ساحة العالم أمام الرأسمالية التي لم يطل الزمن حتى انهارت هي أيضاً في بيتها الأميركي الذي عصفت فيه الأزمة المالية في العام 2008 وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي، وعودة الحديث عن «الدولة الراعية»، لا الشركات الاحتكارية والمصارف المستغلة، وهذا ما أعاد التفكير بالخروج من تلك الحرب بين الرأسمالية والشيوعية، وابتداع نظرية أخرى، فتقدم صاموئيل هانتنغتون بمقال تحدث فيه عن «صراع حضارات» يفسره بأنه صراع أديان ومعتقدات، يشهد العالم عليه، فالحروب التي تُشن باسم الأديان السماوية وغير السماوية وما يتفرّع عنها، حيث برز دور للكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، متحالفة مع السلطة، في الدفاع عن الوجود المسيحي في الشرق، في حين أن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إلتزم الخط الفكري والسياسي «للمحافظين الجدد» أو ما يسمى «المسيحية المتصهينة» ليخوض حروباً في العالم لتعم فيه «الفوضى الخلاقة» التي تحضّر لـ«عودة المسيح» الثانية، وهو ما ترفضه الكنيستان الشرقية والغربية (الأرثوذكسية والكاثوليكية)، وتؤيدها كنائس إنجيلية وبروتستانية ومعمدانية إلخ…
وعودة «الدب الروسي» الى أرض المشرق العربي، بات أمراً مسلماً به دولياً، ومن أميركا تحديداً، إذ أن الذريعة التي اتخذها الرئيس باراك أوباما من استخدام النظام السوري «للسلاح الكيميائي» ضد معارضيه، لشن عدوان على سوريا، لم يتركه الرئيس بوتين يلعب في منطقة نفوذ روسيا وتمتد من إيران الى العراق فسوريا ولبنان الذي أسقط في العام 2006 المشروع الأميركي بأن يكون من «شرق أوسطه الجديد» بهزيمة العدو الإسرائيلي في الحرب على المقاومة، وهو المشروع الذي يترنح في سوريا، بعد أن انهزم في العراق بانسحاب القوات الأميركية منه، وأصبح نظام الحكم فيه حليفاً لإيران، وهو ما أغضب السعودية ودول الخليج أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية خرجت رابحة من الحرب الأميركية على العراق، بعد أن كان صدام حسين حقق نصراً في حرب الخليج الأولى على إيران، فإذا بالعدوان الأميركي على «بلاد ما بين النهرين» يعيدها الى النفوذ الإيراني الذي يتمدد في المنطقة من سوريا الى لبنان وفلسطين، فكانت الحرب على سوريا كي يقطع نظامها العلاقة مع إيران وتعود دمشق الى الحاضنة العربية لا «الفارسية»، وتلتحق بحلف عربي-أميركي بدأ يتكوّن ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن الرئيس الأسد رفض هذه العروض التي قدمت إليه منذ سنوات، واشتد الضغط عليه بعد الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 فلم يخضع، كما لم يستسلم بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان منتصف عام 2005، ولم يرتعب في أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، كما لم يهتز أثناء تحريك التظاهرات ضد حكمه في العام 2011، ليصمد عامين ونصف العام، ويعطي حلفاءه الإقليميين والدوليين ورقة تفاوض قوية على الوضع الجيو -سياسي لسوريا، بأنها في قلب المعادلة ولم يتمكن الأميركيون من شطبها منذ أيام بوش، وهي في حلفها مع إيران وروسيا، هم مَن يرسمون خارطة المنطقة ليس وفق المشروع الأميركي، بل وفق مصالح شعوب المنطقة.
وهكذا خرج الرئيس بوتين من معركة «السلاح الكيميائي» في سوريا، هو مَن يديرها وليس أوباما المتردد كما بات يوصف من قبل الأميركيين الذين لم يعطوه ورقة الحرب التي وصل الى البيت الأبيض وفق برنامج تعهد فيه أنه سينزعها، فكيف يعود إليها بعد أن انسحبت القوات الأميركية من العراق، وستخرج من أفغانستان، حيث رأى الرئيس الأميركي بالمبادرة الروسية وضع «السلاح الكيميائي» السوري تحت الرقابة الدولية وانتساب سوريا الى منظمة حظر استخدام هذا السلاح، مخرجاً لائقاً له، فقبل بها دون تردد، وهو الذي يعرف أنه لن يحصل على موافقة الكونغرس على قرار الحرب الذي أعلنه، ولن يكون الشعب الأميركي الى جانبه، وقد خذله حليفه البريطاني رئيس الوزراء دايفيد كاميرون، ولا يستفيد من التأييد الفرنسي له، فكان «القيصر الروسي» منقذاً له، فوفّر على نفسه عناء حرب يعرف كيف تبدأ ولا يعرف كيف تنتهي، كما أنه خيّب آمال حلفائه من الدول العربية لاسيما الخليجية منها، لكنه أعلن أنه سيستعيض عنها بتسليح المعارضة غير المتطرفة ومن المال السعودي والقطري، وكانت المفاجأة للكيان الصهيوني تراجع أوباما عن ضربته لسوريا وقد أبدى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أسفه لما جرى، وكان يريد تدمير السلاح الكيميائي في ضربات عسكرية لا عبر الأمم المتحدة سلمياً، حيث كشف مسؤولون إسرائيليون عن دبلوماسية رائعة لجأ إليها الرئيس الروسي الذي بات رقماً صعباً في المعادلة الدولية.
فروسيا جددت وجودها في منطقة البحر الأبيض المتوسط الذي يختزن كميات كبيرة من النفط، الذي بدأ الصراع عليه، كما هو الصراع على ممرات الغاز الى أوروبا سواء من قطر أو روسيا أو غيرهما، فلعبة المصالح بين الأمم هي التي تتقدم في الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، وهذا هو سر الصراع على سوريا صاحبة الموقع الجيو-استراتيجي، الذي عليه خيضت الحروب العالمية، وهي تتجدد، لكن الرئيس بوتين القادم الى الحكم من تجربة عميقة وشخصية من الاستخبارات السوفياتية (كي.جي.بي) وخدم في ألمانيا الشرقية، التي كانت نموذجاً لصراع الشرق والغرب، وعند جدارها سقط الاتحاد السوفياتي، فهو يعرف اللعبة جيداً وخبرها بالممارسة، وفي سوريا كانت أولى المواجهات مع أميركا، بعد انتهاء الحرب الباردة، أثبت الرئيس الروسي جدارته، بانه القيصر، وبلاده عادت امبراطورية وأنه يحافظ على حلفائه كما على مصالحه.
Leave a Reply