سألت أحد أبناء قريبٍ لي مقيم في العاصمة الأميركية عن كيفية الإجابة إذا سئل: ما هي هُويتك أو من أين أنت؟ فأجابني: «أقول أنا لبناني». قلت له: لكنّك من مواليد أميركا وتعيش فيها منذ ولدت قبل 13 عاماً، وأنت تحمل الجنسية الأميركية وتدرس في مدرسة أميركية وعائلتك هنا منذ عقدين من الزمن، فلماذا لا ترى نفسك أميركياً؟! فقال: «لأنّ عائلتي جاءت من لبنان وأهل عائلتي موجودون هناك، وأنا زرتهم في الصيف الماضي». قلت له: جميل منك هذا الوفاء لعائلتك ولأصولك الوطنية، لكن لماذا لا تقول أنك أميركي-لبناني، فالأميركيون كلّهم هم من أصول وطنية أخرى تشمل معظم بلدان العالم، ولذلك تسمع عن «الأميركيين الأفارقة» ذوي الأصول الإفريقية، أو «الأميركيين الآسيويين» الذين هاجروا من شرق آسيا، أو «الأميركيين الأيرلنديين» أو «الأميركيين الإيطاليين».. والكثير غيرهم من أصحاب الأصول الأوروبية.
وأضفت قائلاً: ربما حتّى من الأفضل أن تقول أنّك أميركي-عربي، حيث الجمع هنا يصّح بين هويتين ثقافتين جامعتين لخصوصيات عديدة ولا تقوم أيٌّ منهما الآن على أساس العنصر أو العرق أو وحدة الدم أو الدين. فالهوية الأميركية تُعبّر الآن عن بلد فيه جماعات بشرية من أصول ثقافية وعرقية ودينية مختلفة، وهي تعني أيضاً الانتماء إلى أمّة أميركية واحدة نعرف الآن بأنّها تتألف من 50 ولاية لكنّها لم تكن كذلك خلال مراحل تاريخها. وهكذا هي أيضاً «الهُوية العربية» التي تجمع تحت سقفها الثقافي الكبير عرباً لهم أصول عرقية ولغوية ودينية مختلفة، ويتوزّعون الآن على عدّة بلدان رغم أنهم ينتمون إلى أمّة واحدة تجمعها وحدة الثقافة والأرض والتاريخ والمصالح.
طبعاً لم أسترسل أكثر من ذلك مع قريبي الذي بدأ الآن سن المراهقة، لكن هذا الحوار القصير معه جعلني أفكّر ملياً بواقع حال «الهُويّات» المتعدّدة لملايين من الشباب العربي الذين يعيشون خارج أوطانهم ويجدون الآن معضلةً في تحديد هويتهم بل في فهم معناها أصلاً. ولا أعلم سبب الشعور السائد لدى كثيرين من العرب عموماً بوجود تناقضات بين «هُوية» وأخرى، وكأنّ الأمر هو وجوب الاختيار بين هذه «الهُوية» وتلك. إذ مشكلتنا نحن العرب أنّنا نعاني، لحوالي قرنٍ من الزمن، من صراعاتٍ بين هُويّات مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين هذه الهويّات المتعدّدة أصلاً.
فالهويّات المتعدّدة للإنسان، الفرد أو الجماعة، ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى، أو التي تفرض الاختيار فيما بينها، بل هذه الهويّات المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها، والتي فيها (أي الدائرة) «نقطة مركزية» هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية. هكذا هو كل إنسان، حيث تُحيط به مجموعة من الدوائر منذ لحظة الولادة، فيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره: من خصوصية الأم إلى عمومية البشرية جمعاء.
أيضاً، فإنّ مشكلة «الهويّة العربية» نابعة من هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة. فشعوب العالم يشترك البعض منها في حضارة واحدة، لكن هناك خصوصيات ثقافية لكل شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى في الانتماء الحضاري. فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي انتقل بالناس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
إنّ معظم شعوب العالم اليوم تكوّنت دولها على أساس خصوصيات ثقافية، بينما الثقافة العربية لا يُعبّر عنها بعدُ في دولةٍ واحدة. ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى في جنوب السودان) بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة «الدولة الواحدة». فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافات خاصة بها، بل هي محدّدةٌ جغرافياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة من الدول العربية، إضافةً طبعاً إلى إيجاد دولة إسرائيل في قلب المنطقة العربية.
لقد ترافق تحوّل الأمم أو القوميات إلى دولٍ مع سقوط الإمبراطوريات، بحكم التضارب أصلاً بين وجود إمبراطوريةٍ تضمّ أكثر من أمَّة، وبين الدعوات إلى استقلال الأمم وبناء الكيان-الدولة لها. لكنَّ الملفت للانتباه على الصعيد العربي (منذ عهد الخلفاء الراشدين ثمّ مروراً بالدولة الأموية والدولة العباسية وإلى نهاية العهد العثماني) هو توالي أشكال من حكم العرب وغير العرب على المنطقة العربية على أساسٍ غير قوميٍّ أصلاً وغير محدَّدٍ بشعبٍ معيَّن أو بأرضٍ معيَّنة (وهذا شكل من أشكال الإمبراطورية التي تضمّ أكثر من شعبٍ وقومية).
وفي مرحلة القرن العشرين -التي ورثت فيها الإمبراطوريتان (البريطانية والفرنسية) الإمبراطورية العثمانية- انتقل العرب من حال حرّية الحركة على أرضٍ واحدة (دون كيانٍ سياسيٍّ عربيٍّ واحد طبعاً) إلى حالٍ من القيود والحواجز على أرض العرب المشتركة، كمحصّلة لاتفاقيات «سايكس-بيكو»، مع محاولاتٍ لصنع ثقافاتٍ خاصَّة مجتزأة، شجَّعت عليها بقوّةٍ السلطات البريطانية والفرنسية التي كانت تهيمن آنذاك على معظم البلاد العربيَّة، مع دعمٍ كبيرٍ ومفتوح لوجود إسرائيل كنواةٍ لبناء قوميةٍ جديدة (غير عربيَّة على الأرض العربيَّة)، وبطابعٍ عنصريٍّ يهوديٍّ وتوسعيّ!.
هذه كلّها عناصر مهمّة في فهم الأسباب الخارجية المؤثّرة سلباً على مسألة “الهُوية العربية”، لكن من المهمّ أيضاً إدراك أنّ العرب هم أمَّة واحدة في الإطار الثقافي وفي الإطار الحضاري وفي المقاييس التاريخية والجغرافية (اشتراك في عناصر اللغة والثقافة والتاريخ والأرض)، لكنَّهم لم يجتمعوا تاريخياً في إطارٍ سياسيٍّ واحد على أساس العروبة وحدها. فالهويّة العربية كانت موجودةً كـ«ثقافةٍ خاصَّة» قبل الإسلام، ثمّ كحضارةٍ من خلاله ومن بعده، لكنها لم تتجسَّد بعدُ سياسياً كأمَّةٍ واحدة، في إطار كيانٍ سياسيٍّ واحد، وعلى أساس مرجعية العروبة فقط كانتماء.
وذلك يعني أن «العروبة» هي في الجانب السياسي ما زالت «مشروعاً قيد التنفيذ»، وإن كانت «العروبة» قائمةً ومحققّة في الجانب الثقافي على مرّ قرونٍ من الزمن. وهذا الأمر هو الذي سبّب الخلط الخاطئ بين العروبة كهويّة ثقافية مشتركة بين كلّ العرب، وبين الممارسات السياسية باسم العروبة، والتي كان بعضها سلبياً، فجرى رفض ما هو «ثقافي مشترك» بسبب الخلافات السياسية أو لبعض الممارسات السيّئة باسم القومية العربية.
إنّ إضعاف الهُويّة العربية المشتركة يتمّ الآن لصالح «الهويّات» الطائفية والمذهبية والإثنية في معظم المجتمعات العربية. وبهذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلدٍ عربي. فحينما تضعف الهُويّة العربية، لن تكون بدائلها هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.
***
عودة إلى قريبي المراهق، لو أني أردت التعمّق معه أكثر في الحديث عن مسألة «الهُوية» لوجدت نفسي في وضعٍ صعبٍ جداً. فكل ما هو عليه الآن من «هُويات» يعاني من حال تأزّمٍ شديد في المواقف والممارسات. فـ«الهُوية الوطنية اللبنانية»، كما هي المشكلة في أوطان عربية أخرى، تتراجع لصالح «الهُويات» الطائفية والمذهبية والمناطقية، وكذلك هي مشكلة «الهُوية العربية» التي يراها البعض من منظار ممارسات سياسية خاطئة حصلت، أو بشكلٍ مغاير لطبيعتها اللاعنصرية واللاعرقية فيطالبون بالتمايز عنها في «هُويات ثقافية» أخرى، لا بالحرص على خصوصياتهم الثقافية تحت مظلّة «الهُوية العربية المشتركة». وكذلك هي مشكلة قريبي في «الهُوية الدينية» حيث يشدّ بعض الجهلاء الآن، بفكرهم ومواقفهم وسلوكهم، الإسلامَ إلى عصور الجاهلية والتخلّف وبما يتناقض مع ما في هذا الدين الحنيف من قيم ومبادئ تحضّ على استخدام العقل، لا الغرائز، وعلى التوحّد لا التفرّق والتقاتل، وعلى المجادلة بالتي هي أحسن، لا على العنف وقتل الأبرياء.
أمّا «الهُوية الأميركية» فهي تعاني أيضاً الآن من نموّ تيّار عنصري أميركي يريد نبذ من هم في خانة «المهاجرين الجدد»، ومن هم يختلفون في اللون أو الدين أو حتى المذهب المسيحي، عن الذين عُرفوا باسم «المهاجرين الأوائل» وكانوا من أصول «أنغلوسكسونية وبروتستانية ومن ذوي البشرة البيضاء». ثمّ، كيف سأقنع قريبي، هذا الشاب اليافع (اللبناني-العربي- المسلم) بأن يحب «هُويته الأميركية» ويعتزّ بها إذا كان يلمس، ربّما في مدرسته، مظاهر تمييز أو كره لمن هم من أصول عربية وإسلامية، وإذا كان يقرأ أو يسمع عن سياسات الحكومات الأميركية في بعض البلدان العربية أو عن الدعم الأميركي الكبير لإسرائيل التي مارست أكثر من مرّة الاحتلال والعدوان على وطنه الأصلي!.
فعسى أن يشهد العالم قريباً صحوة شبابية تحرص على هويّاتها المتعدّدة لكنها تكون أوّلاً وأخيراً «إنسانية»، فتنطلق من أرضيّة إنسانية حضارية مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة في أوطانها، لا الانتماء الطّائفي أو المذهبي أو الأصول العرقيّة، وتحترم «الآخر» وحريته، فلا تعتدي عليه فرداً كان أم وطناً، وتستهدف الوصول -بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة- إلى بناء عالم جديد تتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها، كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق المواطنين، رجالاً كانوا أمْ نساء.
Leave a Reply