بلهجته العراقية الجميلة، قال لي أحد الأعزاء: «هاي انت وين وطرقاعة وين»؟ بعد البحث والتدقيق وسؤال أستاذي العزيز، كمال العبدلي، عن ماذا يعني ذلك المثل العراقي، علمت أنه يعني باللبناني «الناس بالناس والقطة بالنفاس». فالدنيا قايمة قاعدة وبجنون في بلاد العرب أوطاني، والربيع العربي صار خريفاً غربياً وشمالياً وجنوبياً، وأنا حضرة جنابي أكتب في هذه الزاوية مواضيع لا تمت بما يجري ويحدث هناك بصلة.
إنه نوع من اللوم إذن. وأنا أقبله. لكن الذي لا أقبله هو تلويث قلمي بحبر السياسة وسمومها السوداء المبثوثة في الأرض والفضاء، كبركان يقذف حمم الطمع والكره والخيانة والعجز منذ بدء الخليقة إلى الآن.
والذي «يتفلسف» ويكتب ويحلل ويقول إن الأيام الغابرة كانت أفضل من هذه الأيام، فهو -ومن غير أسف- غلطان. فالسياسة والدسائس والحروب والفتن كانت موجودة، وسوف تظل، طالما الإنسان موجود على هذه الأرض الواسعة الشاسعة، والتي تسع الجميع، لكن البعض يريدها له وحده، ويريد هذا البعض الله له وحده أيضاً. ومن الأزل إلى حتى يُنفَخ في الصُّور، لا الطامع استطاع أن يطوّب الأرض لنفسه ولا القانع استطاع العيش بسلام وأمان كما يرجو.
كبرتُ ووعيتُ وأنا أسمع من أهلي والجيران، عن قصص الظلم والتعدي على العباد والأرزاق واستبداد ذوي القربى والوجهاء وتسلطهم واستبدادهم بسيف الجندرمة والدرك العثماني، ومن بعده الفرنسي، وسلبهم الناس البسطاء، لقمة العيش. كان الغني الوجيه المقرب للسلطة يذل جاره وبكل ما أوتي من نفوذ وسلطة ظالمة ويرغمه على التخلي عن أرضه وأحياناً عن عرضه مقابل تأدية خدمة عامة لابن بلدته المعتّر البائس.
ظل أبي يعاني من داء موجع في صدره طوال عمره القصير جراء «علقة ساخنة» من جيرانه، ذئاب الإقطاع، بسبب نزاع على أرضه وبيته التي «ورثها عن جد جدو». ذهب إقطاع بني عثمان ونفوذ الفرنسيكان بجبروته وسلطته القاهرة، وبقيت الأرض. بقيت البيوت. ما الذي تغير؟؟
لم يتغير سوى طقم الظلم الذي صار أشد قسوة وجهالة. انتهى عهد الاستعمار وبدأت مرحلة الاستحمار، مما دفع الكثيرين، وأنا منهم، ليتركوا الجمل بما حمل ويهاجروا إلى بلاد الكلب والكلبة، كما يقول المثل.
وعندما درست التاريخ في كتب المدرسة، أو قرأت فيما بعد، أذهلني بما يحفل به من حروب وأهوال ودسائس، واليوم وأنا أشاهد الأخبار العاجلة، وبالألوان، وما تسطّره عن الحروب والصراعات واستباحة حرمة الحياة، أدرك جيداً أن كل شيء تحوّل إلى عبث.
وإذا كان الجيل السابق قد عانى من الجهل والفقر والقهر الغاشم الغادر، فاليوم بات العالم والشرق يعج بالمتعلمين والمثقفين والمتدينين والمنظرين… ثورات وديمقراطيات وانتخابات لا معنى لها ولا أهمية لها عند أحد. دول تضحك على الناس والناس تضحك على الدول، وفي النهاية الكل يبكي دماً. العلم لم يمح الجهل والخداع مستمر. الانسان العربي سئم الإصغاء لرجال أعماهم الطمع والجبروت وزعامات «فارطة» أفرغت الناس من آمالهم، ورجال دين، حولوا الدين الى بزنس، والله آخر همهم.
إنها أيام تدور، وصدق من قال «لا جديد تحت الشمس»، وهذه الدنيا تنطبق عليها أغنية المطرب العراقي عزيز علي:
عشنا وشفنا وبعد نشوف قرينا المخفي والمكشوف
دنيا أطماع بأطماع ونحنا فيها دوم صراع
الله يلعن هالأطماع راح تنزلنا ع القاع
ومن ينكر اننا نحن جميعاً صرنا في القاع؟ هنا في المهجر مرجل الطمع والجشع والعبث وكره الاخر يغلي تحت الرماد، وهناك في بلاد الأعاريب المستعربة، لا شيء تغير. ليست «المرجلة» في الإطاحة بزعماء طغاة جهلة غلاظ وعابثين، جثموا على صدور البلاد والعباد لسنين طويلة، المرجلة في إقامة دولة مؤسسات تمنع تكرار المآسي.
في هذه المرحلة لا بد من اكتشاف لقاح للقضاء على طاعون التعصب والجشع، وحقن الشعوب الشرق أوسطية بفيروسات المحبة والتسامح حتى ينتشر وباء الفهم أن هذه الأرض للناس جميعاً.
لكن من أنا في «الطرقاعة» العاصفة القاصفة حتى يسمع كلامي أحد!!
Leave a Reply