واشنطن – أصيبت حكومة الولايات المتحدة الأميركية بالشلل الجزئي ابتداءاً من يوم الثلاثاء الماضي وسط مخاوف من احتمال امتداد الأزمة لفترة طويلة، مكبدة الاقتصاد خسائر تصل الى 300 مليون دولار يومياً على الاقل مع استمرار الإقفال الجزئي، أو ما يقال له الـ«شات داون»، لبعض المؤسسات الحكومية الأميركية وتسريح حوالي مليون موظف فدرالي. الأزمة بدأت مع فشل الكونغرس بإصدار قانون لتمويل الحكومة الفدرالية في ظل معركة حزبية شرسة تأتي استعداداً لإنتخابات 2014 التي ستعيد رسم التوازنات في مجلسي النواب والشيوخ. فالجمهوريون، يقودهم «تيار الشاي»، أرادوا من هذا الاستحقاق المالي تحقيق أبرز وعودهم للناخبين، وهو مناهضة قانون «أوباماكير»، الذي يعتبره الرئيس الأميركي خطاً أحمر، واصفاً مطلب الجمهوريين بأنه ذات خلفية «إيديولوجية».

وقد انفجرت الازمة بين أوباما والجمهوريين بعد مفاوضات فاشلة عقدت في البيت الأبيض أتبعها الرئيس الاميركي بهجوم حاد على رئيس النواب الجمهوري جون باينر، محملاً إياه وفريقه مسؤولية شلل الدولة منذ ثلاثة أيام.
وقال أوباما، في كلمة ألقاها في روكفيل بولاية ميريلاند، موجهاً كلامه إلى الجمهوريين «اذهبوا إلى التصويت، أوقفوا هذه المهزلة وضعوا حداً للشلل». وأضاف أن «الشيء الوحيد الذي يشل الدولة ويمنع الناس من العودة إلى العمل ويمنع الشركات الصغرى والمتوسطة من الحصول على قروض، هو أن جون باينر لا يريد حتى السماح بحصول تصويت على مشروع القانون حول الموازنة لأنه لا يريد أن يغضب المتطرفين في حزبه».
وفيما قال باينر بعد مغادرته البيت الأبيض، إن «الرئيس كرر مرة جديدة القول أنه لا يريد التفاوض»، أعلن البيت الأبيض بعد الاجتماع الذي استمر حوالي ساعة ونصف الساعة، أن أوباما «قال بوضوح إنه لن يتفاوض حول ضرورة تحرك الكونغرس من أجل إعادة فتح الحكومة أو لزيادة سقف الدين بهدف دفع المستحقات التي راكمها الكونغرس».
وأكد أوباما أن «مجلس النواب (ذا الغالبية الجمهورية) يمكن أن يتحرك اعتباراً من اليوم لإعادة فتح الحكومة وإنهاء الأضرار التي يسببها هذا الشلل للاقتصاد والعائلات في أنحاء البلاد كافة»، مضيفاً أنه ما زال «متفائلاً بأن المنطق سيسود في النهاية»، بحسب البيت الأبيض.
واستبعد زعيم الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ هاري ريد أيضاً، التنازل في قضية إصلاح الضمان الصحي، وحث الجمهوريين على اعتماد قانون موازنة لمدة بضعة أسابيع من أجل إفساح المجال أمام التوصل إلى اتفاق أوسع نطاقاً في وقت لاحق.
وقبل ذلك، أعرب الرئيس الأميركي عن سخطه من الأزمة الحالية، وذلك في مقابلة مع تلفزيون «سي أن بي سي» الأميركي. وقال أوباما «بالتأكيد، أنا ساخط لأن هذه الأزمة غير ضرورية على الإطلاق»، مكرراً أنه لن يتفاوض مع خصومه الجمهوريين.
وأوضح أوباما، الذي التقى، مسؤولين من أكبر المصارف الأميركية في البيت الأبيض، أن «وول ستريت هذه المرة يجب أن تكون قلقة من الشلل الحالي، خصوصاً في مسألة الدين»، مضيفاً أنه «عندما يكون هناك وضع فيه طرف مستعد لعرقلة مستحقات الولايات المتحدة (تجاه الدائنين) فعندها نكون في مشكلة». وعبر الرئيس الأميركي عن استيائه من فكرة أنه «إذا لم أقل لعشرين مليون شخص إنه ليس بإمكانهم الوصول إلى الضمان الصحي، فإن الدولة ستبقى مشلولة»، واصفاً هذا الموقف بأنه «غير مسؤول». وأضاف «إذا اعتدنا أن نسمح لحزب أن يعمد إلى الابتزاز، فعندها لن يكون بإمكان أي رئيس يأتي من بعدي أن يحكم بشكل فعال».
معركة سياسية حامية
على مسار المفاوضات السياسية، أكد رئيس مجلس النواب الجمهوري جون باينر أن المفاوضات مع أوباما بشأن الميزانية فشلت، وذلك في تصريح مقتضب للصحافيين بعد انتهاء اجتماع البيت الأبيض الذي ضم قادة الكونغرس الجمهوريين والديمقراطيين لمناقشة الأزمة التي أدت إلى إغلاق الحكومة. وقد تعثر تمرير ميزانية السنة المالية الجديدة بعد أن ربطها الجمهوريون في مجلس النواب بتعليق قانون الضمان الصحي المعروف باسم «أوباما كير»، وهو ما رفضه مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، حيث تم التصويت لصالح إقرار الميزانية مع إزالة بند «أوباماكير»، دون أن ينال الأخير مصادقة مجلس النواب.
وقال باينر إن اللقاء جرى بلهجة«مهذبة» ولكنه لم يؤد إلى تحقيق تقدم لأن «الرئيس كرر مرة جديدة القول إنه لا يريد التفاوض على أوباما كير». وبدوره قال زعيم مجلس الشيوخ السناتور الديموقراطي هاري ريد من جانبه إن قانون الضمان الصحي لا مجال للتفاوض عليه، مؤكدا أن «لدينا سقفا للدين يحدق بنا» وينبغي الموافقة على رفعه. ورفض ريد الحلول المؤقتة التي اقترحها الجمهوريون للخروج من الأزمة التي تسببت في غلق الحكومة الفدرالية حتى الآن. وقالت زعيمة الأقلية الديموقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسي إن قانون الضمان الصحي هو قانون تم إقراره في آذار (مارس) الماضي وليس هذا وقت تعديله.
استحقاق رفع سقف الدين
ويتمسك أوباما بعدم التفاوض مع خصومه الجمهوريين على «أوباما كير» في الوقت الذي يقترب فيه استحقاق رفع سقف الدين وهو أمر ضروري بالنسبة لوزارة الخزانة قبل 17 تشرين الأول (أكتوبر). وفي حال لم يعط الكونغرس موافقته على رفع سقف الدين فإن الولايات المتحدة لن تتمكن من سداد ديونها اعتبارا من هذا التاريخ وسيكون وضعا غير مسبوق.
ومع صدور هذا العدد يدخل التوقف الجزئي لأنشطة الحكومة الفدرالية الأميركية يومه الخامس، مع استمرار خلاف الديمقراطيين والجمهوريين. وتاريخياً، شهدت الولايات المتحدة 17 إغلاقاً مؤقتاً أو جزئياً للمؤسسات الحكومية منذ العام 1976، وكان آخرها في الفترة ما بين 14 و19 تشرين الثاني من العام 1995، ومن 16 كانون الأول إلى 6 كانون الثاني من العام 1996، خلال حكم الرئيس الأسبق بيل كلينتون. وخلال هذه الفترة أجبرت الحكومة آنذاك 280 ألف موظف على التوقف عن العمل، كما علقت صرف مرتبات 477 ألفاً آخرين. وقدرت الخسائر بحوالى 1,4 مليار دولار.
800 ألف موظف فدرالي فـي إجازة
وسيؤدي إغلاق قطاعات حكومية عديدة -لأول مرة منذ 17 عاماً- إلى منح عطلة إجبارية غير مدفوعة الأجر لنحو 800 ألف أميركي من الموظفن غير الأساسيين في أجهزة حكومية، كما تم إغلاق المتنزهات الوطنية والمتاحف، وتوقفت مشروعات للأبحاث الطبية. ويطال العجز الجزئي لإدارة أوباما عن الوفاء بالتزاماتها المالية برامج حيوية ومنشآت رمزية، حيث يتوقف برنامج لتوزيع الغذاء على الفقراء من النساء والأطفال، كما يغلق تمثال الحرية في نيويورك أبوابه أمام السياح.
بالمقابل، سيستمر العمل في خدمات حكومية حيوية مثل البريد والمرور ومراقبة حركة الطيران، فضلا عن الخدمات الأساسية المرتبطة بالأمن القومي الأميركي وأجهزة تطبيق القانون، وستواصل السفارات والقنصليات الأميركية في الخارج عملها بشكل طبيعي، كما وقع الرئيس الأميركي على قانون يقضي باستمرار دفع رواتب أفراد الجيش.
وبالطبع سيكون للـ«شات داون» أثر سلبي على نمو الاقتصاد الأميركي (تفاصيل ص 22)، لكن ذلك سيعتمد في المقابل على المدة التي سيستمر هذا التوقف خلالها.
وبالتوازي مع الأثر الاقتصادي السلبي يوجد تأثير سياسي أيضا، حيث لام 46 بالمئة من الأميركيين الجمهوريين بحسب استطلاع لـ«سي أن أن» على الدخول في هذا النفق، بينما رأى 36 بالمئة أن اللوم يقع على أوباما.
وكان أوباما قد حذر من أن تعطيل الحكومة سيكون «موجعاً» لعملية انتعاش الاقتصاد الأميركي، وقال إن الأمر متروك للكونغرس لاستدراك إعلان إفلاس الحكومة، لكنه دعا المؤسسات العسكرية الأميركية إلى الاستمرار في عملها بشكل اعتيادي بعد قرار إغلاق دوائر فيدرالية.
وأضاف: «هذا الفشل يمكن ألا يحدث»، معتبراً أنه كان ممكناً تفادي الكارثة لو قرر مجلس النواب العمل مع مجلس الشيوخ لرفع سقف الدين والسماح بتمويل الحكومة من دون مطالب غريبة ومثيرة للجدل في هذه العملية، وربطها بقانون الرعاية الصحي. ودعا أوباما أعضاء حزب الشاي والحزب الجمهوري في مجلس النواب إلى عدم ربط موضوع الموازنة بنتائج الانتخابات الرئاسية واستعمالها رهينة لتسجيل النقاط على الإدارة الأميركية على حد تعبيره.
وزارة الخارجية لن تتأثر.. مؤقتاً
أعلنت وزارة الخارجية الاميركية ان الاقسام القنصلية الاميركية ستواصل في المرحلة الاولى منح تأشيرات للاجانب الراغبين في الدخول الى الولايات المتحدة رغم شلل الدولة الفدرالية. وقالت المتحدثة باسم الوزارة جنيفر بساكي إن «النشاطات التي يقوم بها مكتب الشؤون القنصلية ستستمر محليا وفي الخارج ما يعني انهم سيواصلون منح تأشيرات وجوازات». ولكنها اكدت ان وزارتها لن تتأثر كثيراً في المرحلة الأولى بشل الخدمات العامة. وأضافت «في حال كان هناك اقفال حكومي فإن نشاطات وزارة الخارجية والوكالة الفدرالية للمساعدة الدولية (يو اس ايد) سوف تستمر بشكل محدود ولفترة وجيزة». وأوضحت أن «وزارة الخارجية والوكالة الفدرالية للمساعدة الدولية هما وكالات أمنية قومية تتخذان اجراءات لمواصلة العمل على الصعيد القومي حتى في حال الاغلاق وتقليص الطاقم».
«البنتاغون»: تسريح نصف الموظفين المدنيين
أما على مستوى وزارة الدفاع، فإن نصف الموظفين المدنيين في «البنتاغون» تم منحهم إجازة من دون راتب، وتم تأجيل عمليات صيانة السفن والطائرات الحربية وإلغاء عمليات التدريب، وكل هذا يشكل خطرا على المهام العسكرية في الولايات المتحدة. ويستعد الجيش للتكيف مع صدمة الشلل الحكومي، وهو ما يخشى ان يحمل في حال استمراره طويلا الى تأثيرات جذرية على المؤسسة العسكرية الاميركية، بحسب تحذيرات مسؤولين. وعلى الرغم من ان اليوم الاول من الشلل في الميزانية الثلاثاء لم يحمل اي اثر ظاهر على الجيش الاميركي، إلا ان مسؤولين عسكريين يؤكدون انهم سيواجهون صعوبات في القيام بالمهام نفسها بعد منح نصف الموظفين المدنيين الـ800 الف في «البنتاغون» إجازة غير مدفوعة.
Leave a Reply