دخل لبنان عام الإستحقاق الرئاسي، إذ تفصله عن انتخابات رئاسة الجمهورية ثمانية أشهر، وإن كان إسم الرئيس يبقى بحكم المجهول حتى ربع الساعة الأخيرة، حيث يشهد التاريخ اللبناني على مرشح لرئاسة الجمهورية، وهو عبد العزيز شهاب، نام رئيساً ليستفيق على اختيار شارل حلو وانتخابه رئيساً في العام 1964 خلفاً للرئيس فؤاد شهاب الذي رُفض التجديد له، رغم توفر كل الظروف التي تؤمّن له ذلك من كتلة نيابية ناخبة، الى دعم عربي من الرئيس جمال عبد الناصر وتأييد دولي من فرنسا وأميركا.
سليمان |
لا أحد يعرف في لبنان اتجاه الرياح الرئاسية، التي تهب وفق المصالح الإقليمية والدولية، حيث من المعروف أن رئيس الجمهورية ليس صناعة لبنانية، بل هو يصنع في مطابخ القرار الإقليمي والدولي.. هكذا هو تاريخ رؤساء الجمهورية في لبنان منذ الاستقلال عندما انتخب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية في العام 1943 بقرار بريطاني وصولاً الى العماد ميشال سليمان الذي أتى من قيادة الجيش بقرار إقليمي-دولي شاركت فيه مصر وقطر والسعودية ولم تمانعه سوريا وإيران وكان لأميركا وفرنسا دور في صناعته.
وقد بدأ موضوع الانتخابات الرئاسية يفرض نفسه، وإن كان ليس على أولوية جدول الأعمال، بسبب الأحداث في سوريا، إلا أنه وُضع على نار خفيفة في أكثر من مطبخ عربي وإقليمي ودولي، وبدأ الموارنة حيث كل زعيم وسياسي منهم مرشح محتمل والبعض منهم مرشح دائم لرئاسة الجمهورية تحت شعار «كل ماروني مرشح للرئاسة»، فإن رئيس حزب «القوات اللبنانية» افتتح الشهر الماضي، معركة الرئاسة بوضع مواصفات لها، تنطبق عليه، إذ استحضر خطاب بشير الجميّل في العام 1982، وقبل أشهر من انتخابات رئاسة الجمهورية، ليطرح بأن الجمهورية بحاجة الى رئيس قوي، إلاّ أن ظروف طرح بشير الذي كان رئيساً «للقوات اللبنانية» مختلفاً عن تقديم جعجع نفسه مرشحاً لو لم يعلن ذلك مباشرة، إذ أن الجميّل كان قد تخلّص من كل منافسيه المحتملين للرئاسة الأولى، وألقى بيده بقبضة عسكرية على ما كان يسمى المنطقة الشرقية فوحّد ميليشياتها العسكرية التابعة للأحزاب المسيحية والمتناحرة فيما بينها تحت أمرته تحت شعار «توحيد البندقية المسيحية»، فأنهى بذلك القوة العسكرية لحزب الوطنيين الأحرار، وارتكب ضده مجزرة الصفرا في العام 1980، بعد عامين على مجزرة إهدن التي ذهب ضحيتها النائب طوني فرنجية مع أفراد عائلته ومرافقوه وعدد من مناصريه، ونجا ابنه رئيس «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية، كما كان العميد ريمون إده رئيس حزب «الكتلة الوطنية» تعرّض لمحاولة اغتيال في العام 1976، فاضطر الى ترك المنطقة الشرقية الى الغربية التي غادرها الى باريس بعد دخول القوات السورية في العام 1977.
ففي بورصة المرشحين لهذه الدورة، يبرز من قوى 14 آذار، سمير جعجع كمرشح متقدّم على غيره بعد أن زكاه الرئيس سعد الحريري، بأنه مرشحه، ولم يعد يذكر ذلك منذ حوالي عامين، لأن الحريري قد يكون ارتكب «زلة لسان»، أو حاول إغضاب العماد ميشال عون وسليمان فرنجية، أو توجيه رسالة الى الرئيس أمين الجميّل الذي يطرح نفسه مرشحا أيضا ويحاول أن يكون على مسافة من الحريري الذي فتح لجعجع أبواب الخليج من السعودية.
وكانت «14 آذار» رشّحت في العام 2008 النائب الراحل نسيب لحود وأبقت في احتياطها النائبين بطرس حرب وروبير غانم وهما من الاسماء المتداولة، لكنها لم تستطع أن تنتخبه بالنصف زائداً واحدا، وهي كانت تمتلك 65 نائباً وأكثر، إلاّ أن الدستور ينص على أن رئيس الجمهورية ينتخب في الدورة الأولى بأكثرية ثلثي أعضاء المجلس النيابي، أي 86 نائباً ولم يكن هذا العدد متوفراً لـ«14 آذار» التي رفض البطريرك الماروني نصرالله صفير مجاراتها في هذا الموضوع، لأنه غير دستوري أولاً، ثمّ لأنه قد يعطي حق فرض رئيس الجمهورية للمسلمين الذين يشكّلون نصف عدد مجلس النواب 64 نائباً، مع نائب مسيحي، فينتخب رئيس الجمهورية بأصوات المسلمين وحصرية تسميته، في حين أن الدستور نص على ضرورة أن يحصل المرشح على الثلثين في الدورة الأولى للانتخابات لضمان مشاركة المسيحيين والمسلمين معاً.
لذلك فإن المرشح لرئاسة الجمهورية يجب أن يتوفر له النصاب القانوني وهو 86 نائباً، وهذا لن يتوفر لأي مرشح من «8» أو «14 آذار»، حيث يبرز ومايزال اسم العماد ميشال عون كمرشح دائم لرئاسة الجمهورية التي لم يتمكّن منها في العام 1988، بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل، وعطّل اتفاقاً أميركياً-سورياً على اسم النائب مخايل الضاهر الذي سماه الرئيس حافظ الأسد ونال تأييد الموفد الرئاسي الأميركي ريتشارد مورفي، ورفض عون ومعه «القوات اللبنانية» برئاسة جعجع وبتأييد بكركي ونواب مسيحيين، الخضوع لهذا الاتفاق، وقرروا مقاطعة جلسة الانتخاب وعدم تأمين النصاب القانوني له، فتمّ خطف نواب واحتجاز آخرين، الذين كانوا يقطنون في المنطقة الشرقية ومنعهم من الحضور الى مجلس النواب، حيث رافق هذه العمليات توتير أمني بالقصف والقنص الى أن تأجّلت جلسة الانتخاب، ووقع لبنان في فراغ رئاسي، ملأته حكومة عسكرية شكّلها الرئيس الجميّل قبل انتهاء عهده بربع ساعة، برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون، وضمّت أعضاء المجلس العسكري المكوّن من ضباط مسيحيين ومسلمين، فرفض المسلمون الانضمام الى الحكومة العسكرية، تحت ضغط الشارع الإسلامي والوطني وتأييد سوريا التي دعمت استمرار حكومة الرئيس سليم الحص كأمر واقع، وتسلّم عون صلاحيات رئاسة الجمهورية كرئيس حكومة انتقالية تؤمن إجراء انتخابات رئاسية، لكن عون اشترط أن يكون هو الرئيس الذي كان فتح خطوطاً مع القيادة السورية عبر الوزير ألبير منصور وفايز قزي، لكن الرئيس الأسد كان يريد إعادة انتخاب الرئيس سليمان فرنجية الذي أعلن ترشيحه، غير أن جلسة مجلس النواب لم تعقد، فكانت التسوية الأميركية-السورية بترشيح الضاهر الذي أغضب عون وأيضاً أمين الجميّل الذي كان يسعى الى التجديد مستفيداً من الصراع على رئاسة الجمهورية، لكنه لم ينجح في محاولته، ودخل لبنان في حرب تحرير شنّها عون ضد الوجود العسكري السوري، وكان خضع لحكومتين اولى برئاسة الحص وثانية برئاسة عون الى أن استوت الطبخة الإقليمية والدولية للحل السياسي في لبنان، والذي عجّل فيه انهيار الاتحاد السوفياتي، وغزو الرئيس العراقي صدام حسين للكويت، فاجتمع النواب في الطائف وخرجوا بإتفاق ينهي الحرب الأهلية، ويقر إصلاحات للنظام السياسي، لكن عون اعترض عليه عندما رأى أنه خارج التسوية، وانتخب رينيه معوض لرئاسة الجمهورية بتأييد عربي ودولي، فأعلن تمرّده في القصر الجمهوري ولم ينتهِ إلا بعملية عسكرية بقرار دولي، اعترف بانتخاب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية بعد اغتيال الرئيس معوّض، وخرج عون منفياً من السفارة الفرنسية الى باريس وعاد الى لبنان عام 2005 بعد خروج القوات السورية، وهو يتطلّع الى رئاسة الجمهورية التي لم يصلها في العام 2008، وكانت شاغرة بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في تشرين الثاني عام 2007، بسبب الأزمة الداخلية، التي تمّت تسويتها في الدوحة بعد حروب داخلية متنقلة، أوصلت قائد الجيش ميشال سليمان الى رئاسة الجمهورية بقرار خارجي، وهو الان يتطلّع الى التمديد له مع اقتراب انتهاء ولايته وهو ما سعى اليه اغلبية رؤساء الجمهورية ولم تتوفر الا لثلاثة هم الخوري والهراوي ولحود وإن الرئيس سليمان يكرّر تأكيد رفضه له، إلا أنه وبحسب مطلعين جسّ نبض بعض الدول العربية منها والأجنبية الفاعلة، فلم يحصل على الجواب النهائي، لكنه يراهن على الظروف الدولية والإقليمية التي قد تفرض التمديد، الذي حصل لرئيسين سابقين لعهده هما إلياس الهراوي وإميل لحود، وقد تمّ ربط التمديد لكل منهما بظروف خارجية، وأخرى داخلية قد تكون مؤاتية أيضاً لسليمان الذي يرفع شعار «إعلان بعبدا» وتحييد لبنان عن الأزمة السورية وصراع المحاور، وهو لقي ترحيباً له من العديد من الدول، وتمّ الثناء عليه في اللقاء الذي جمعه مع الرئيس الأميركي أوباما في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما حصل على دعم أيضاً لإستقرار لبنان، قد يكون ذلك أسباباً موجبة دولياً وإقليمياً للتمديد، إلا إذا انعقد مؤتمر «جنيف-2» بشأن حل الأزمة السورية، وهدأت في سوريا، وتمّ التحضير لمرحلة انتقالية فيها ومنها إجراء انتخابات رئاسية سورية.
فالتمديد يتقدّم مع رفض الرئيس سليمان له، وهو دونه عقبات، أولها تأمين شبه إجماع لبناني حوله، لاسيما من الكتل النيابية، ثمّ مباركة بكركي له والتي كانت دائماً تقف ضد التمديد أو التجديد لرؤساء الجمهورية، ثمّ الموقف الدولي والإقليمي والعربي منه.
لذلك فإن فتح معركة انتخابات رئاسة الجمهورية مازالت مبكرة، لكن الحديث عنها متداول، وقد يكون قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي مُدّد له في قيادة الجيش، الإسم المطروح، وعندها يكون القائد الثالث للجيش ينتخب رئيساً للجمهورية بعد لحود وسليمان وفي دورات متلاحقة، وتعديل للمادة 49 من الدستور التي تشترط على الموظف أن يستقيل قبل سنتين للترشح لهذا المنصب.
فالمرشح-التسوية هو دائماً الذي يتقدّم على ما عداه، ولم ينجح الرئيس التحدي، الذي كان نموذجه بشير الجميّل والذي اغتيل قبل أن يتسلّم مهامه، كما لم يستطع شقيقه أمين من أن يمارس الحكم.
وكان التطلع دائماً الى موظفي الفئة الأولى لاسيما في موقعي حاكمية مصرف لبنان الذي منه انتُخب إلياس سركيس وكاد الخيار أن يقع على إدمون نعيم وميشال الخوري اللذين شغلا المنصب، وهو يقترب من الحاكم الحالي رياض سلامة، أو من قيادة الجيش التي كان منها الرئيس فؤاد شهاب، ثمّ لحود وسليمان وقد يكون قهوجي العسكري أو سلامة المصرفي-المدني…؟
Leave a Reply