لم يصدق أي موعد حُدّد لتبصر الحكومة النور في لبنان، وهي لن تولد لا في شهرها السابع الذي دخلت فيه، وعندها تحتاج الى ولادة قيصرية، وقد لا ينجو الوليد من الموت، وقد لا تكون ولادتها طبيعية في شهرها التاسع الذي يصادف نهاية العام الحالي، ولأن الحمل لم يحصل فلا الشهر السابع ولا الثامن أو التاسع، ولا أي شهر آخر، ستكون فيه ولادة الحكومة التي لم تستغرق أية حكومة أخرى الوقت الذي استنزفته تشكيل حكومات أخرى، إذ قفز الرئيس المكلّف تمام سلام، فوق الرقم المعتاد أو القسري لتأليف الحكومات في لبنان، ولم يحصل أي تقدّم إذ مازال الوضع على حاله من المراوحة حول لاءاته وإلزام نفسه بصيغة حكومية وبمواقف لم يعد يمكنه التراجع عنها، ولأنه ليس طرفاً محايداً في الصراع، ليفرض حكومة حيادية كما أعلن منذ تكليفه، لأن تسميته كان بقرار سعودي، والإعلان عن ترشحه كان من اجتماع لقوى «14 آذار» في «بيت الوسط» الذي يملكه سعد الحريري ولم يسكنه. وكانت موافقة قوى «8 آذار» على اسمه مع «التيار الوطني الحر» كشرط نقله له النائب وليد جنبلاط للمشاركة في حكومة وحدة وطنية، تحصّن الساحة اللبنانية الداخلية، في مواجهة تداعيات الأزمة السورية، لكن ظهر أن المطلوب من تكليف سلام، هو إبعاد «حزب الله» عن الحكومة، وعدم إعطاء «التيار الوطني الحر» حجماً وزارياً وحقائب سيادية أو خدماتية وإقصائه عن وزارة الطاقة والمياه، بعد أن شارف موضوع تلزيم التنقيب عن النفط والغاز على نهايته، حيث ربط البعض بين استقالة الرئيس نجيب ميقاتي وهذا الملف النفطي، لتأخير لبنان من الانضمام الى الدول المصدرة للنفط كما الدول العربية، إذ تتحدث مصادر سياسية مطلعة على هذا الملف، أن دولاً خليجية تلعب دوراً ضاغطاً كي لا يصبح لبنان دولة نفطية، والإنعكاسات الإيجابية عليه مالياً واقتصادياً واجتماعياً وإنمائياً وحتى سياسياً، فيفك ارتباطه بدول خارجية.
فاستقالة الحكومة التي أمّن الرئيس ميقاتي ظروفها السياسية والطائفية، وتذرّع بعدم التمديد لمدير عام قوى الأمن الداخلي السابق اللواء أشرف ريفي، فإن الهدف كان استرضاؤه دولا خليجية وفي مقدمها السعودية والتغفير هو والنائب جنبلاط عن الذنب الذي ارتكباه عندما انقلبا على 14 آذار، وعلى السعودية بتأمين أكثرية نيابية أبعدت الحريري وأتت بميقاتي رئيساً للحكومة كان الدور في وجودها لسوريا وإيران و«حزب الله».
لذلك فإن عنوان استقالة ميقاتي هو تشكيل حكومة لا يكون «حزب الله» فيها، ولا نفوذ لإيران عليها، ولا دور سوري داخلها يؤثر على قرارات تتعلق بالأزمة السورية، وهي الشروط التي وضعتها السعودية على سلام وطلبت من «14 آذار» العمل بموجبها، وفق ما تؤكّد قوى «8 آذار»، التي لا ترى أي تفاؤل قريب بتشكيل الحكومة، إذا لم ترفع السعودية ومعها أميركا ودول أوروبية «الفيتو» عن مشاركة «حزب الله» الذي يصرّ بدوره على أن تتشكّل الحكومة من الكتل النيابية وفق أحجامها، ويطالب بـ«الثلث الضامن» داخلها، لأن رئيسها هو من صلب «14 آذار»، ولا يمكن أن يعطى الثلثين لها، حيث تتحكم بالقرار وتستأثر به، وهي التجربة التي حصلت في حكومة فؤاد السنيورة الأولى التي تشكّلت بعد الانتخابات النيابية 2005، وفي ظل «تحالف رباعي» ضم «حزب الله» وحركة «أمل» الى «تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي، مما دفع بوزراء الحزب والحركة الى الاستقالة من الحكومة وإسقاط الميثاقية عنها دستورياً، بعد سلسلة من القرارات الأحادية التي استفردت بها قوى «14 آذار» دون التطلع أو التجاوب مع ما كان يطرحه وزراء «8 آذار»، الذين تقدموا بالاستقالة. لكن الحكومة استمرت دون وجود مكوّن طائقي أساسي فيها، وهو ما يتنافى مع مقدمة الدستور التي تؤكّد على ميثاقية ودستورية أية حكومة بمشاركة مختلف شرائح المجتمع الطائفية، لكي تعبّر عن «صيغة العيش المشترك».
لقد تعلّم «حزب الله» وحركة «أمل» من ما حصل مع حكومة السنيورة، ولن يكرروا الخطأ مرتين، وقد تشكّلت الحكومات فيما بعد منذ اتفاق الدوحة على أساس الثلث الضامن في حكومة السنيورة الثانية وحكومة الحريري الأولى التي كان فيها «وزير شيعي ملك» هو عدنان السيد حسين، الذي استقال مع وزراء المعارضة السابقة من حكومة الحريري وأطاحوا به من رئاستها ليأتي ميقاتي فترفض قوى «14 آذار» المشاركة فيها وقدانتظرها لدخول الحكومة أشهراً، ليعود فيؤلفها من دونها، وسميت حكومته بحكومة «حزب الله» وإيران وسوريا، وهو ما شكّل خلافاً وطلاقاً بين جنبلاط والسعودية والحريري، واعتبر ميقاتي مرتداً لأنه غدر بالحريري.
وحاول «تيار المستقبل» بعد تكليف سلام أن يرد على «حزب الله»، فطرح الحكومة الحيادية من دون «8» و«14 آذار»، وهي بهذه الصيغة يكون نفذ ما يريد لجهة إقصاء الحزب وحلفائه، وتجاوب مع مطلب أميركي وسعودي، وقد لبى الرئيس سلام ما هو مطلوب منه، فقدم صيغة من ثلاث ثمانات (8+8+8)، لا تضم وزراء حزبيين وأشخاصاً استفزازيين، ولا فيها الثلث الضامن، ولا حقائب ثابتة لأي طرف، بل المداورة فيها، وهذه الشروط عقّدت تأليف الحكومة منذ التكليف، وسعى سلام الى فرض حكومة أمر واقع، فلم يستجب معه رئيس الجمهورية، ورفض جنبلاط السير بها، وهو ما أخّر تشكيلها الذي بات مرتبطاً بقرار خارجي أكثر منه داخلي، لأن أية تشكيلة بحاجة لموافقة السعودية عليها التي لعبت في البداية دوراً إيجابياً، بانها على مسافة واحدة من الجميع، وانفتح سفيرها في لبنان علي عوّاض العسيري على «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، وظنّ البعض أن هذه إشارات الى تشكيل حكومة جامعة، فتبيّن أن الهدف هو تطمين الحزب على أن عدم تمثيله في الحكومة لا يعني إلا تأمين الاستقرار في لبنان.
لكن مشاركة مقاتلي «حزب الله» في معركة القصيّر بريف حمص الى جانب النظام السوري عقد الوضع الداخلي اللبناني، وبات شرط انسحاب الحزب من سوريا، هو ممر إجباري للحديث عن حكومة جامعة طرحها رئيس الجمهورية الذي كاد أن يقع في خطأ فرض حكومة وحدّد لها موعداً في أول تشرين الأول من هذا الشهر، وأعلن موقفه هذا في مقابلة مع جريدة «لو فيغارو» الفرنسية عشية سفره الى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد جاء توقيت موقفه مع قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بتوجيه ضربة عسكرية الى سوريا، وهو ما أعاد تعديل موقف وليد جنبلاط، بأنه سيعيد البحث في خياراته بتشكيل حكومة أمر واقع، لكن موقفي سليمان وجنبلاط تبدّلا عندما تراجع العدوان الأميركي، وتقدّمت المبادرة الروسية السلمية بتدمير السلاح الكيميائي السوري، وهو ما أوقع بكل من كان يستعد للعملية العسكرية، وتغيّرت المعادلات، فبقي النظام السوري الذي قبل بالمبادرة الروسية، وشعر السعوديون أنهم غُلبوا على أمرهم، وما زاد من غضبهم هو الحوار الأميركي-الإيراني عبر الاتصال الهاتفي بين أوباما وحسن روحاني، واختلطت الأوراق، فعاد جنبلاط الى رشده وطرح صيغة 9+9+6، فقبلها «حزب الله» وحلفاؤه، ولم يعارضها سليمان، لكن «تيار المستقبل» و«14 آذار» رفضوها، واضطر سلام الى مجاراة حلفائه الذين باتوا أمام معادلة جديدة في المنطقة، وهي صمود النظام السوري، والحوار الأميركي- الإيراني، وتراجع الدور السعودي وانكفاء الدور القطري والتركي، وهي أوراق أفقدت «14 آذار» ذرائعها، حيث اندفع الرئيس فؤاد السنيورة لفتح حوار مع الرئيس نبيه برّي الذي طرح مبادرة حوارية تؤسس لإتفاق لبناني، وتعجّل في تشكيل الحكومة وترسم خارطة طريق لمسار سياسي يأخذ بعين الاعتبار الهواجس الداخلية لكل الأطراف، ويمنح لبنان فرصة الابتعاد عن سياسة المحاور وصراعات الدول.
فالحكومة التي كان متوقعاً لها أن تبصر النور وقبل عيد الفطر، ومن ثمّ عشية عيد الأضحى، قد لا يكون موعد رأس السنة متفائلاً لولادتها، وقد لا تولد أبداً، لتبقى حكومة تصريف الأعمال برئاسة ميقاتي التي لا تزعج «حزب الله» وحلفاءه، وقد سعت «14 آذار» أن تقنع رئيس الجمهورية على توقيع مراسيم حكومة حتى لو لم تنل الثقة، بل تتحوّل الى تصريف أعمال، على أن يخرج منها «حزب الله» كي لا يأتي استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية وحكومة ميقاتي باقية، وإذا مرّ الاستحقاق دون انتخاب، فقد تتحوّل السلطة إليها، وهو ما حصل بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود نهاية عام 2007، فانتقلت السلطة التنفيذية كاملة الى حكومة السنيورة التي كان خارجها الثنائي الشيعي، والسيناريو نفسه قد يتكرّر مع حكومة ميقاتي المستقيلة.
والخطورة أن يقدم رئيس الجمهورية على توقيع مراسيم حكومة مستجيباً لقوى «14 آذار»، فيقع لبنان من جديد في حكومتين، لأن «8 آذار» لن تقبل بحكومة أمر واقع وسترفض تسليم الوزارات، وبذلك يكون اللبنانيون قد دخلوا بحرب الحكومتين التي شهدوها في نهاية عهد الرئيس أمين الجميّل، الذي كلّف قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون تشكيل حكومة عسكرية، رفضتها القوى الوطنية والإسلامية، وأبقت على حكومة الرئيس سليم الحص، حيث كلّف سيناريو الحكومتين في لبنان حربي تحرير وإلغاء قبل إنهاء تمرّد عون من قبل الشرعية برئاسة الياس الهراوي وتطبيق اتفاق الطائف.
Leave a Reply