في كتاب مذكراته، وصف «مالكوم أكس» الزعيم الأميركي الأسود المسلم، زيارته وأداءه فريضة الحج، الحدث الذي قَلَب حياته. فهو دخل مكة وفي قلبه كره عظيم للبيض وعاد من الحج وقد تلاشت من قلبه كراهية الإنسان الأبيض، لا بل تبدد البغض من مشاعره والحقد على من أذاقوه ذلّ العبودية والتمييز العنصري.
أثناء مراسيم الحج، التقى «مالكوم أكس» بخليط مدهش من الناس بكافة ألوانهم وثقافاتهم وأعراقهم ولغاتهم ومن الجنسين، المرأة والرجل، وفي جوٍ تنعدم فيه كل الفوارق بين البشر في تطبيق ميداني وعملي، عندما يخلع الحجاج ملابسهم الملونة، ويتشحون بالبياض ويخلعون الأحذية الفاخرة.. بل يمشون أقرب إلى الحفاة وتهوي قلوبهم وتخضع خاشعة إلى ربهم العظيم، كما ولدتهم أمهاتهم، يكسوهم لباس واحد أبيض مشترك، يذكّر الغافل واللاهي في هذه الدنيا بالكفن والقبر وبيوم الحشر، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يسيرون بموكب روحاني في رحلة الى الله، لا فرق بين الأمير والوزير والكبير والصغير والغني والفقير، نساء ورجالاً.
أيقن «مالكوم أكس» أن المعنى الأول للحج إنساني بامتياز. فدعوة نبينا إبراهيم عليه السلام، كانت إنسانية عالمية ولم تكن لطائفة محددة، بل كان أذانه للناس كافة بأن يأتوا من أقصى المعمورة، ومن كل فجّ عميق، فيلتقي الإنسان بأخيه الإنسان في المكان المقدس الذي أُبطلت فيه التضحية بالإنسان كقربان لله، فكان عيد الأضحى العيد الكبير عند المسلمين، عيد السلام واللاعنف واللا إكراه وعيد الأخوة الإنسانية وغفران الذنوب وإفراغ القلوب من طمع الدنيا وتطهير النفوس من التكبر والتعصب.
بعد أن عاد «مالكوم أكس» إلى أميركا، كان قد تبدّل جذرياً، ونبذ ثوب الجهالة والعنصرية، وبدأ يحاور الأميركيين بأسلوب ثقافي متحضر، وراح في محاضراته ينشر روح التسامح والسلام والمحبة للآخر، وماتمثله تلك القيم المحورية في الإسلام. حينها شعر مبغضوه بخطورة هذا «التحول الإيجابي» في سلوكه وتوجهاته والذي قد ينعكس على إرادة الجموع نحو نبذ العنف وسلوك العصيان المدني، ونتيجة ذلك سقط الداعية «أكس» مضرجاً بدمه على يد من ربّاهم وعلمهم. مات باسطاً يده وكأنه يقول: «لئن بسطت يَدكَ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك».
شرّع الله سبحانه وتعالى الحج لجميع خلقه، ولم يجعله موسماً للطقوس والشعائر الجامدة وتطبيق النصوص الدينية على حساب المعاني الجوهرية للدين الحنيف. وكان أول بيت وضع للناس في مكة، وفي وادٍ غير ذي زرع عبر وحي من الله لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. كان رفع ذلك البيت حرماً يدشن تشريعاً جديداً، لا يزال صامداً عبر آلاف السنين، بأن لا يسفك دم الإنسان، ويزرع فكرة السلام، كبذرة في بقعة محددة، هي مكة المكرمة، التي تهوي اليها القلوب، في مثل هذه الأيام من كل عام حيث موسم الحج. وعلى أمل أن يتحول هذا البيت العتيق إلى قبة هائلة تضم الكرة الأرضية كلها، فينعم الناس تحتها بالسلام الأبدي وليسود العدل كمنطلق لإشاعة المحبة بين البشرية.
«فحيث العدل فثمّ شرع الله».
Leave a Reply