هل يُضيّع لبنان نفطه، كما أضاع مياهه التي تذهب هدراً في البحر، وهو يمتلك كميات هائلة من المياه، لو أقام لها السدود وحفظها، لكان صدّرها الى دول تعاني نقصاً في المياه كدول الخليج، وهو ما فعلته تركيا باستثمارها لمياه دجلة والفرات، وأقامت مشروعاً سمّته «مياه السلام» وباعت منه الى دول خليجية وإسرائيل.
ويمر لبنان بالتجربة نفسها مع النفط، فما يحصل اليوم سبق وحصل في خمسينات القرن الماضي، عندما طرح المهندس إبراهيم عبد العال مشروع نهر الليطاني للإستفادة منه في توليد الكهرباء واستخدام المياه، فتصدّت له إسرائيل وهدّدت بعمل عسكري عدواني ضد لبنان إذا ما استثمر مياهه، وكذلك في مياه الوزاني التي سرقتها أيضاً، وهي تعتبر أن لها الحق في ثروة لبنان المائية، ولكن وبعد حوالي نصف قرن ومع قيام المقاومة بتحرير الجنوب، وإقامة توازن ردع مع العدو الإسرائيلي، فإن الأوضاع تبدّلت، وبوشر العمل قبل سنتين في مشروع الليطاني، كما أن رئيس الجمهورية العماد إميل لحود وفي عهده ذهب الى نهر الوزاني وافتتح مشروعاً للإستفادة من مياهه، للتأكيد على حق لبنان في موارده الطبيعية.
وفي موضوع النفط الذي يعود أمر التنقيب عنه الى مرحلة الإنتداب الفرنسي، عندما أصدر المفوض الفرنسي هنري دوجوفنيل في العام 1926، تشريعاً أجاز فيه التنقيب عن مناجم النفط والمعادن واستثمارها واستخراجها، وقد أجريت دراسات لمعرفة أماكن وجود النفط والثروة المعدنية، وأعلن الباحث الفرنسي لويس دويرتيه في العام 1932 عن وجود نفط ومعادن في جوف الأراضي اللبنانية، وكذلك توقّع الجيولوجي الأميركي جورج رونوراد عام 1955 وجود نفط في لبنان.
وقد قامت شركات عدة في البحث والتنقيب عن النفط، فحفرت شركة نفط العراق IPC في منطقة تربل في الشمال، وتمّ حفر بئر في العام 1953، في منطقة يحمر في البقاع الغربي، وبين عامي 1960 و1961 قامت شركة ألمانية بحفر بئر لمصلحة الشركة ذاتها في منطقة عدلون، وفي العام 1963 عمدت شركة إيطالية الى حفر بئرين في سحمر وتل ذنوب في البقاع كما في عبرين شرق البترون.
وكان العالم اللبناني الراحل الدكتور غسان قانصوه والمختص في مجال الجيولوجيا والنفط، أن قدّم دراسات أكّد فيها وجود كميات من النفط في لبنان ولاسيما في المناطق الواقعة بين البترون وطرابلس في المياه الإقليمية اللبنانية.
أما الخبير الجيولوجي زياد بيضون فكشف في أبحاثه أن النفط موجود في منطقة الجرف القاري المغمور بمياه البحر الضحلة على السواحل اللبنانية وليس في المناطق الداخلية مع عدم استبعاده وجود آبار لاسيما في منطقتي سحمر ويحمر البقاعيتين. وتوصل الخبراء الى تأكيد وجود النفط في ثلاث مناطق لبنانية هي: البترون-شكا والتي تمتد حتى جبل تربل، ومنطقتي سحمر ويحمر في البقاع وعدلون في الجنوب.
ولم تقم الحكومات المتعاقبة في لبنان، منذ الاستقلال بإعارة الملف النفطي الاهتمام اللازم، ولم تتعاطَ بجدية معه، وكان بعض السياسيين يشكّك بوجود ثروة نفطية في لبنان، وأن مسؤولين في الدولة نظروا الى الكلفة العالية لإستخراج النفط، حيث كان سعر البرميل لا يتعدّى الدولارين، فتمّ تأجيل التنقيب عن النفط، وقد كان لإندلاع الحرب الأهلية تأثير سلبي أيضاً في البحث عن النفط واستخراجه، لاسيما وأن لبنان كان بحاجة الى المال لإعادة إعمار ما تهدّم أثناء المعارك العسكرية وهو ما دفع بالرئيس رفيق الحريري الى اعتماد الإستدانة لإعادة الإعمار والبناء، مراهناً على حصول سلام بين العرب وإسرائيل، وليس على استخراج النفط الذي لم يهتم به الحريري، ربما لأسباب تتعلق بدول الخليج النفطية وتحديداً السعودية، ورفض دخول لبنان نادي الدول المصدّرة للنفط، وإبقاءه دولة يقوم اقتصادها على السياحة والخدمات، وهو ما أدّى الى إفقار اللبنانيين وهجرتهم، لأن مثل هذه السياسة الاقتصادية لا تؤمّن فرص عمل لآلاف المتخرجين من الجامعات.
أما لماذا بدأ الاهتمام بالنفط؟ فلأن إسرائيل سبقت لبنان الى اكتشافه، وهي نقّبت عنه خلال العامين 1998 – 1999 بعد أن كانت بدأت بذلك في منتصف الخمسينات، ولكنها في نهاية التسعينات إكتشفت حقل نفط «ماري بي» في المياه الجنوبية الإسرائيلية على مقربة من المياه الفلسطينية، وبدأت الإنتاج في العام 2004، واستخرجت 138 مليون م3، لكن هذا البئر نضب.
هذا الإكتشاف النفطي الإسرائيلي، دفع بالحكومة اللبنانية في العام 2002 الى التعاقد مع شركة «سبكتروم» البريطانية، التي قامت بإجراء مسح ثنائي الأبعاد غطّى كامل الساحل اللبناني، حيث أشار تقرير الشركة الى احتمال فعلي لوجود النفط والغاز.
كما أن شركة «<ـي جي أس» النروجية استكملت مسحها للساحل بثلاثي الأبعاد وفي الموقع نفسه، وأكّدت في دراستها أن أكبر الكميات النفطية موجودة في الشمال مقابل ساحل العبدة.
وأجرت شركة «<ـي جي أس» مسوحات ثلاثية الأبعاد في العامين 2006 و2007 واحداً منها ضمن المياه اللبنانية وآخر ضمن المياه اللبنانية-القبرصية، حيث أشارت الى احتمال وجود كميات تجارية من النفط تصل الى 50 بالمئة، وأن لبنان ربما كان يمتلك مخزونات تصل الى 8 مليارات برميل.
ومع كل هذه الدراسات التي بدأت قبل حوالي القرن، ولبنان يتأخر عن التعامل الجدي مع هذه الثروة النفطية التي سبقته إسرائيل الى الإستفادة منها، وهي إكتشفت حقل نفط عام 2009 يُعرف بحقل «تمار» الذي يبعد 90 كلم عن ساحل حيفا والذي يقدّر احتياطه بنحو 9,7 تريليون م3، كما أن إكتشاف حقل «لفيتان» والذي يمتد الى الحدود البحرية لكل من لبنان وقبرص، حرّك الحكومة اللبنانية، التي تخوّفت من أن تسرق إسرائيل النفط اللبناني، حيث برز خلاف قانوني مع الكيان الصهيوني حول ترسيم الحدود البحرية لما يسمى «المنطقة الاقتصادية الخالصة»، بعد أن وقّع لبنان مع قبرص اتفاقاً ثنائياً جرى بموجبه ترسيم حدود هذه المنطقة بين لبنان، الذي قام بترسيم حدوده أحادياً وأودع الترسيم الى الأمين العام للأمم المتحدة عام 2010، وقد وجّهت الحكومة اللبنانية أكثر من إنذار عبر محاميها الى شركة «نوبل إنرجي» التي قامت بأعمال الحفر في المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، وحذّرتها من مغبة التعدّي على المنطقة التابعة للبنان وطلبت منها تجنّب التنقيب في المناطق التي هي موضوع نزاع بين البلدين.
وأرسل وزير الخارجية عدنان منصور رسالة الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، طلب فيها أن تقوم القوة الدولية المؤقتة التابعة للأمم المتحدة بمراقبة المياه الإقليمية ومنع إسرائيل من أي إعتداء على ثروة لبنان النفطية، وكان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، أعلن في أحد خطبه، أن المقاومة لن تقف مكتوفة اليد عند أي عدوان إسرائيلي على مياهنا ونفطنا، بعد أن أعلنت إسرائيل أنها ترفض الترسيم الأحادي الذي قام به لبنان، حيث تبلغ مساحة المنطقة المتنازع عليها 850 كلم2، وأنها ستتصدّى لمنح لبنان رخص تنقيب عن الغاز والنفط في هذه المنطقة، وبينها «البلوك 9» الذي يحتوي على كميات كبيرة من الغاز.
في هذا الوقت لم تتأخر إسرائيل عن إصدار التشريعات اللازمة لقطاع النفط، وقد انتهت في حزيران الماضي من تحديد 40 بالمئة من كمية النفط للتصدير، و60 بالمئة للإستهلاك المحلي، مع وضع نسبة الضرائب الحكومية على الشركات المنتجة، بعد أن تمّ تحديد أرباح الدولة ما بين 52 و62 بالمئة وليس 33 بالمئة من عائدات تصدير الغاز والنفط، وإنشاء صندوق سيادي توضع فيه نسبة من عائدات النفط لأجيال إسرائيل.
أما لبنان فإنه تقدم في ملفه النفطي، واستطاع وزير الطاقة والمياه جبران باسيل أن ينجز العديد من الملفات بعد أن صدر قانون النفط عن مجلس النواب2010 فسمى «هيئة إدارة قطاع النفط» من ستة أشخاص عيّنهم مجلس الوزراء قبل استقالة الحكومة، ويتقاضون رواتب عالية، لأن عليهم تقع مسؤولية إدارة قطاع حيوي، لا يحمل إدخاله في المحاصصة والفساد، حيث تلقت الهيئة وهي ليست استشارية طلبات من 52 شركة للتأهل بصورة أولية، وطلبت 14 شركة أن يتمّ تأهيلها بصفتها شركات مشغلة، أي تقوم بأنشطة الحفر والاستخراج، أما الشركات المتبقية فطلبت تأهيلها بصفتها شركات غير مشغلة، أي أن تشارك مع الشركات المشغلة في الملكية ونفقات الحفر والتطوير والإستخراج لكنها لن تكون مسؤولة عن العمليات.
والشركات التي تقدمت هي من كبرى شركات الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والنروج وفرنسا وإيطاليا والبرازيل وروسيا والهند والصين، بما فيها شركات «إكسون موبيل» و«سيفرون» و«توتال» و«ستات أويل» النروجية و«إيني» الايطالية و«لوك أويل» و«روسنفت» الروسيتين والشركة الوطنية الصينية للنفط البحري، كما تقدمت شركات من تركيا وإيران والكويت والإمارات العربية المتحدة بطلبات للتأهل، لكن لم تتقدّم شركات من السعودية أو قطر.
وقد قامت الهيئة بتصنيف الشركات المؤهلة، وعلى الحكومة أن تصدر مرسومين، الأول يتعلق بعقد التراخيص للشركات، والثاني بتحديد المنطقة التي سيتم فيها التنقيب واستخراج النفط، وكان مقرراً أن تنتهي هذه العملية الإجرائية في أيار الماضي، إلا أن إستقالة الحكومة أوقف العمل بها، إذ يرفض رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي دعوة الحكومة للإجتماع لإصدار المرسومين، ويرى أن هذا الموضوع الذي له طابع وطني، لا يجوز أن تقوم به حكومة تصريف أعمال، وهو يلتقي مع «تيار المستقبل» في هذه النقطة، وهذا ما أزعج الرئيس نبيه بري الذي طالب ميقاتي بعقد جلسة للحكومة لإنهاء هذا الملف النفطي الذي كل تأخير فيه سيؤثر على لبنان اقتصادياً، كما أن إسرائيل سبقت لبنان في التنقيب وقد تسرق نفطه، وهي ستغزو الأسواق قبله وأقامت اتفاقات مع قبرص وتركيا واليونان لتصدير نفطها وغازها، وقد أنجزت كل شيء لديها، فلماذا يتأخر لبنان ببدء استثمار ثروته النفطية.
يبدو أن السياسة دخلت الى استخراج النفط، حيث يتمّ الجدل حول ما إذا كان يحق لهذه الحكومة المستقيلة الإجتماع أم لا، كما أن أطرافاً سياسية لا تريد أن يسجل لهذه الحكومة أنها أنجزت ملف النفط، وللوزير جبران باسيل قيامه بالمهمة كاملة.
وكان متوقعاً أن يتمّ الإعلان عن العقود مع الشركات في ربيع عام 2014، إلا أن تأخير إصدار المراسيم سيؤخر العملية الى أجل غير مسمى، إلا إذا حصلت تسوية سياسية على تشكيل حكومة جديدة، عندها قد تمر المراسيم النفطية، وإلا فإن لبنان يكون يُضيّع الوقت في إستثمار ثروته النفطية ومنذ عقود كما فعل مع مياهه بسبب اللامسؤولية لدى السياسيين، الذين ينظرون الى النفط على أنه بقرة حلوب، وهو السبب الأساس للخلافات التي تتعلق بالشركات ومَن سيكون وكيلها في لبنان أو شريكاً فيها، الى عدد البلوكات التي سيتم التنقيب فيها فما بين بلوكين كما يريد الوزير باسيل أو العشرة دفعة واحدة كما يرغب الرئيس بري، إضافة الى الصندوق الإئتماني الذي ستضع فيه عائدات النفط التي يقدرها الخبراء بأنها ستكون بأسوأ الأحوال 370 مليار دولار صافي من كل كلفة، أو 1700 مليار دولار في احسن الاحوال حيث يمكن سد الدين العام، وتأمين فرص عمل، وتوليد الطاقة الكهربائية من الغاز، وخروج لبنان من أزمة انقطاع الكهرباء وتكلفتها العالية، والتي تبلغ خسارتها السنوية بحوالي مليار و400 مليون دولار، وهي من مسببات الدين العام.
فأمام لبنان فرصة بأن يتحوّل الى دولة نفطية، ولكن ما يعيقه، هو أن أمراء الحرب فيه، أو زعماء الطوائف، يريدون أن يكونوا أمراء نفطه وهنا تكمن المشكلة الحقيقية والفعلية.
Leave a Reply