يعيش العالم العربي منذ بدء إعلان ما يسمى «ثورات عربية» و«إنتفاضات شعبية» قبل ثلاث سنوات، مرحلة تحولات داخلية، وصراعات إقليمية ودولية سترسم خريطته «الجيوسياسية»، وتعيد ترسيم حدود كياناته، كما حصل قبل حوالي قرن، عندما تمّ اقتسام المنطقة إثر الحرب العالمية الأولى في العام 1916 بين دول الحلفاء بريطانيا وفرنسا، إثر سقوط السلطنة العثمانية .
وما يجري في سوريا، حرب كونية عليها، وهي امتداد للحرب الأميركية على العراق واحتلاله في نيسان من العام 2003، والتي نتج عنها «فدرلة هذا البلد»، وإشعال حرب مذهبية وعرقية فيه.
وهذه الحروب الأميركية الاستباقية التي افتتحها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن، تحت عنوان محاربة «الإرهاب»، وبدأها من أفغانستان في العام 2001، بعد تفجيرات «11 أيلول» من العام نفسه، وأسقط حكم نظام «طالبان»، ثمّ استتبع ذلك في غزو العراق ربيع عام 2003، ليستكمله بالحرب على لبنان في العدوان الإسرائيلي صيف 2006، ويتبعه في حرب على غزة ما بين نهاية عام 2008 وبداية عام 2009، ليتم تفجير سوريا من الداخل بما يسمى «ثورة شعبية» في اذار من العام 20١١ هي نموذج لما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن، وكلها إفرازات لما ابتدعه «المحافظون الجدد» في الإدارة الأميركية «البوشية»، «الفوضى الخلاقة» تعيشها الدول العربية، ويحصل فيها تغيير للأنظمة وحركات فوضوية في الشارع، وإهدار دماء، لإعادة رسم خارطة جديدة للمنطقة، كان وضعها اليهودي الأميركي برنارد لويس مطلع ثمانينات القرن الماضي وتقضي الى تقسيم العالم العربي الى دويلات طائفية ومذهبية وقبلية وعرقية، وهو ما نُفّذ في السودان والعراق ووصل الى ليبيا ويتكرّس في اليمن ويُعمل له في سوريا وسيصل الى مصر والسعودية ودول المغرب العربي.
فالصراع الذي يجري في سوريا، هو عليها كموقع استراتيجي، عند تقاطع نفوذ دول ومصالح أمم، حيث تحتل دمشق دوراً طليعياً في محور المقاومة والممانعة، وهي الدولة التي وقفت عندها التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي، ولم ترضخ للشروط الإسرائيلية، لا بل هي احتضنت المقاومة في لبنان، وشكّلت لها عمقاً استراتيجياً مدها بالسلاح والدعم اللوجستي والبعد الجغرافي، كما شكّلت الحضن الدافئ للمقاومة الفلسطينية بكل فصائلها وفي مقدّمها حركة «حماس»، ولم تخضع لإملاءات وزير الخارجية الأميركية كولن باول عندما زارها في أيار 2003 وبعد شهر على الغزو الأميركي ليبلّغ الرئيس السوري بشار الأسد، ضرورة فك إرتباطه بالمقاومة وإيران، لكن الجواب كان بالرفض، وجاء الرد الأميركي عقوباتٍ على سوريا، وقراراً من مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 1559 في مطلع أيلول 2004، بسحب القوات السورية من لبنان.
ولأن سوريا لم ترضخ للمطالب الأميركية والإسرائيلية، كانت الحرب عليها، تحت شعارات إصلاحية، حملها حلفاء أميركا «الإسلاميون الجدد» من جماعة «الإخوان»، على أنهم هم يمثلون «الإسلام المعتدل» الذي عليه تستند أميركا بتحالفاتها في المنطقة بديلاً عن الأنظمة الحاكمة.
وبعد ثلاث سنوات من الحرب العالمية بقيادة الولايات المتحدة على سوريا، فشل المخطط المرسوم لها، فتمّ نزع ذريعة العدوان العسكري الأميركي، بذريعة استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي الذي لم يعد سلاحاً رادعاً بوجه إسرائيل كما أرادت له سوريا أن يكون، مع دخول سلاح الصواريخ الذي أثبت جدواه في الحرب التي وقعت بين المقاومة والعدو الإسرائيلي.
ولقد اعترف الرئيس الأميركي باراك أوباما، أنه ليس بإمكانه خوض حرب على سوريا، وهو الذي إنسحب من العراق وسينسحب من أفغانستان، وأكّد للشعب الأميركي، في برنامجه الانتخابي، أن أميركا لن تخوض حروباً خارجية، تؤدي الى إنهاك المواطن الأميركي اقتصادياً ونفسياً، وتجلب الويلات له، فكان لا بدّ من إتفاق روسي- أميركي على أن الحرب على سوريا التي شجّعت عليها أميركا ووفرت أصدقاء لها، يدعمون المسلحين من المعارضة بالسلاح والمال، فإن أهدافها قد سقطت مع صمود النظام وبقائه متماسكاً بالجيش والمؤسسات، وأن الإرهاب هو الذي تستظلّه ما سمي بـ«معارضة»، فتبيّن أنها تنظيمات تكفيرية جهادية ظلامية تابعة لتنظيم «القاعدة» ومنها «جبهة النصرة» التي صنّفتها أميركا «إرهابية».
من هنا بدأت تتغيّر وجهة المعركة في سوريا، حيث تقدّمت القراءة الروسية لتوصيف ما يجري بأنها حرب على الإرهاب، يخوضها النظام السوري، وهي شبيهة لتلك التي تخوضها روسيا في أراضيها والجمهوريات المحيطة بها على «الجماعات الإسلامية التكفيرية» سواء في الشيشان أو القوقاز أو داغستان، وهي المعركة نفسها التي تخوضها أميركا على «القاعدة» في اليمن والصومال والسودان ولو بطائرات من دون طيار، وكان آخرها اختطاف «أبو أنس الليبي» من بنغازي الليبية المتهم بتفجيرات ضد مصالح أميركية في نيروبي وغيرها، وهو العمل العسكري الذي قامت به فرنسا في مالي ضد مسلحين جهاديين متطرفين، وهو ما تفعله السعودية أيضاً ضد من تسميهم «الفئة الضالة» التي تتغطى بالإسلام لممارسة الإرهاب، الذي يضربه الجيش المصري في سيناء، والجيش التونسي عند الحدود مع الجزائر إلخ…
فما يحصل في سوريا، بدأ يتكشّف على أنه معركة ضد قوى تكفيرية، باتت تسيطر على أجزاء واسعة من شمال سوريا، وتقيم فيها «دولة الإسلام في العراق والشام» (داعش)، التي تعمل على تصفية ما يسمى بـ«الجيش السوري الحر»، وكذلك القوى الإسلامية التي لا تجاريها في تكفيرها الإسلامي، ولا في أدائها بفرض «الشريعة الإسلامية»، وهو ما عطّل دور كل القوى الليبرالية والعلمانية واليسارية، التي اختفت عن الساحة، وباتت ضعيفة جداً أمام تنامي حضور المنظمات والتيارات الجهادية المتطرفة، وهذا الوضع شكّل إحراجاً لطرفي «المجلس الوطني السوري» و«الإئتلاف الوطني السوري»، أن يقدما أسماء محاورين الى مؤتمر «جنيف – 2»، الذي اتفقت كل من أميركا وروسيا على عقده في نهاية تشرين الثاني، لكن يبدو أن السعودية التي غاظها الحوار الأميركي- الإيراني، مازالت تعمل على تعطيل الحل السياسي، لصالح استمرار العمل العسكري، وهي ستقدّم حالة الرفض له، بعد أن انكفأت كل من تركيا وقطر، إذ شعرت السعودية، أن أميركا باعتها في صفقة دولية وإقليمية يجري الإعداد لها، محورها اتفاق روسي-أميركي على معالجة الملفات بين الدولتين، بما فيها الوضع في سوريا، الذي أقرّت واشنطن بدور أساسي لموسكو فيه، واعترفت بنفوذ لها في المشرق العربي، وبالحجم الإقليمي لإيران، حيث غابت المملكة العربية السعودية عن أي دور، لا بل يجري عزلها، فإمتنع وزير خارجيتها سعود الفيصل، عن إلقاء كلمة بلاده في الجمعية العامة للأمم المتحدة ورفضت عضوية مجلس الامن الدولي الذي انتخبت له وتوترت العلاقات مع أميركا، وهي المرة الأولى في تاريخ العلاقة بين الدولتين منذ إنشاء المملكة في الأربعينات من القرن الماضي، إذ شعر السعوديون أنهم مهمشون، وقد خسروا قيادة العالم العربي الذي يطمحون له منذ الخمسينات، فكان صدامهم مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على الدور القيادي، حيث برزت مصر في عهده صاحبة دعوات للوحدة، وفي دعم المقاومة في فلسطين، والتحضير لحرب استردادها، فأمسك عبد الناصر بالشارع العربي الذي كان يهتف له، وكانت السعودية تناصبه العداء، واشتبكت معه في أكثر من ساحة عربية من اليمن الى العراق ولبنان، حيث كان العالم العربي منقسماً بين محورين: الأول أميركي يسوّق لمشروع رئيسه دوايت إيزنهاور وسمي بإسمه «مشروع إيزنهاور»، واستظله كل من إيران الشاه وتركيا الأطلسية والملكية الهاشمية في العراق، وكان الصراع على لبنان في عهد الرئيس كميل شمعون الذي انضم الى هذا المحور مما ادى الى انقسام اللبنانيين وتقاتلهم في العام 1958 بعد أن تقدّم عبد الناصر باتجاه سوريا وأقام وحدة معها من ضمن مشروعه للوحدة العربية، فجوبه بهذا المحور الذي رفع العداء له، تحت عنوان «محاربة الشيوعية»، التي تحمل فكراً إلحادياً، وتمّ تجييش «الإخوان المسلمون» في المواجهة، وحاولوا اغتيال عبد الناصر، وهو السيناريو نفسه الذي يطبق ضد سوريا اليوم، لأنها تحمل قضية فلسطين، وتحتضن فكراً قومياً وحدوياً لا طائفياً، يرفض مشاريع التقسيم والاستسلام، ويقود هذا المحور، ما سمي بـ«أصدقاء سوريا» الذي يضم أميركا ودول أوروبية وعربية وتحديداً خليجية، فيقابله محور مقاوم وممانع يمتد من إيران الى لبنان وفلسطين مروراً بالعراق وسوريا، مدعوماً من روسيا والصين ودول «البريكس».
ولقد حُسّم الصراع على سوريا، لصالح بقائها موحدة في دولة يرأسها الرئيس بشار الأسد، حتى يحين موعد الانتخابات الرئاسية، فيقرر السوريون مَن يختارون، وخلال هذه المرحلة التي تمتد حتى حزيران 2014، فإن على أميركا أن تأتي بمعارضين للنظام الى مؤتمر «جنيف -2»، وهي لم تنجح حتى الآن، لأن السعودية التي تقف وراء الإئتلاف الوطني السوري برئاسة أحمد الجربا تشترط تنحي الأسد كما أن المجلس الوطني السوري برئاسة جورج صبرا يطالب بإجتثاث النظام من جذوره مع حزب البعث على الطريقة العراقية، وهو أمر مرفوض دولياً، لأنه يحوّل سوريا الى بلد خاضع للمنظمات الإرهابية وهو ما حاصل في الأجزاء التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة.
لذلك تشعر السعودية، أنها تخسر أوراقاً في المنطقة، فبعد العراق، هي ستخسر سوريا، ولم يبقَ لها إلا أن تستعيد لبنان ليبقى لها نفوذ في المشرق العربي، حيث تخشى من أن يقع نهائياً تحت النفوذ الإيراني-السوري، فتسعى الى إعادة الإمساك به وفرض وجودها فيه، لتفاوض عليه، وفق ما يقول مسؤولون في «حزب الله» الذين يكشفون عن أن السعودية قررت فتح الحرب على إيران من خلال لبنان وضد «حزب الله»، بعد أن فشلت في العراق وسوريا، وهي حرّكت جماعات لإرباك الحزب أمنياً وضرب بيئته الشعبية وخلق شرخ بين الحزب وأبناء الطائفة الشيعية التي ينتمي اليها «حزب الله»، بالتضييق على المنتسبين له في دول الخليج وطردهم منه وقطع أرزاقهم، وهي لجأت الى أوروبا لتصنيف جناحه العسكري بـ«الإرهابي» وتعمل مع الأمم المتحدة لإخراج مسلحيه من سوريا، وهو الشرط الذي وضعه «تيار المستقبل» و«14 آذار» لقبول مشاركة الحزب في الحكومة، إذ يبدو أن الصراع هو على لبنان، ولن يتوقف إلا بحوار إيراني-سعودي أو بإنتصار طرف على آخر وهو أمر مستبعد.
Leave a Reply