واشنطن – «وثائق سنودن» تحولت الى كابوس يؤرق إدارة الرئيس باراك أوباما وأشبه بالفضيحة لوكالة الأمن القومي الأميركية بعد انكشاف برامجها التجسسية التي تطال كافة أنحاء العالم. وتسببت الوثائق المسربة الجديدة بتوتير العلاقات الخارجية لواشنطن حتى مع أقرب حلفائها الغربيين، ما دفع الكونغرس الى إجراء جلسات استجواب لعدد من كبار مسؤولي الوكالات الأمنية للاستفسار عن برامج التجسس السرية التي تم الكشف عنها. أما أوباما، المنشغل بالإعتذارات العابرة للقارات والمشاكل الداخلية، فحاول التملص من المسؤولية قدر الإمكان، حيث أعلن البيت الأبيض أنه سيبدأ التحقيق في عمل وكالة الأمن القومي (أن أس أي) للتأكد من أنها تعمل تحت الرقابة المطلوبة. وأمر بمراجعة السبل التي يتم عن طريقها جمع المعلومات الاستخباراتية وفرض قيود إضافية على عمليات وكالة الامن القومي، التي تحولت الى أخطبوط عملاق يثير الهواجس داخل اروقة السياسة الاميركية من تعاظم دور المؤسسة الاستخبارية، وتقمص العاملين بالوكالة دور رعاة بقر لا يأبهون للقانون.
تظاهرة ترفع صور سنودن في واشنطن |
ولم ينف أوباما أو يؤكد تقارير أفادت باحتمال قيام الولايات المتحدة بالتجسس على حلفائها في أوروبا وأميركا اللاتينية حيث قال أوباما، في وقت متأخر من مساء الجمعة: «أنتم أيضاً تتجسسون»، قبل أن يتابع بقوله: «دعونا نتحاور.. وسوف نقوم ببعض التغييرات».
وقد أثارت معلومات جديدة، منقولة عن وثائق سنودن، نشرتها «لوموند» الفرنسية و«إل موندو» الإسبانية و«دير شبيغل» الألمانية عاصفة دبلوماسية في العواصم الاوروبية خلال الأسبوع الماضي، وخصوصاً في المانيا بعد كشف معلومات عن تجسس تعرض له الهاتف الشخصي للمستشارة انغيلا ميركل بعلم أوباما، وسط انتقادات أوروبية واسعة للتجسس الأميركي دفعت الكونغرس الأميركي لعقد جلسة استجواب بهذا الشأن.
لكن رد الإستخبارات الأميركية كان صريحاً الى حد الوقاحة خلال جلسة استماع عقدتها لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، حيث قال مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر إن التجسس على قادة أجانب «أمر مألوف»، في حين قال مدير وكالة الأمن القومي، كيث ألكسندر، إن الصحفيين الذي قرأوا وثائق سنودن لم يفهموها لأن اتصالات الأوروبيين الواردة فيها قد وصلت لوكالة الأمن القومي عبر وكالات استخبارات أوروبية هي من قامت برصد الإتصالات.
وقال كلابر الذي يشرف على عمل 16 وكالة استخبارات اميركية بينها وكالة الامن القومي إن «نوايا القادة تمثل تخوفا أبديا بالنسبة للمعلومات الاستخباراتية، ومراقبة قادة أجانب ليس أمرا جديدا وهو أحد أوائل الأمور التي تعلمتها في مدرسة الاستخبارات عام 1963».
وأوضح أن الهدف خصوصا هو «تحديد ما إذا كان ما يقولونه مطابقا لما يحصل. من الحيوي بالنسبة لنا أن نحدد الاتجاه الذي تسلكه الدول وماهية سياساتها وتداعيات ذلك علينا في سلسلة من المجالات». وتابع أن معظم القلق يأتي من الساسة الذين ربما لا يألفون حجم عمليات بلدانهم الاستخباراتية، مؤكدا أن دولا حليفة مارست أنشطة تجسس على الولايات المتحدة أو قادتها.
وبدوره، قال أمام لجنة الاستخبارات إنه «لكي نكون واضحين تماماً، لم نجمع معلومات عن مواطنين أوروبيين»، موضحاً أن الأمر يتصل بـ«معلومات تلقتها وكالة الأمن القومي» من شركائها الأوروبيين. وأضاف ألكسندر أن «ما ذكره صحافيون في فرنسا وإسبانيا عن قيام الوكالة باعتراض عشرات ملايين الاتصالات الهاتفية خاطئ تماماً. هؤلاء لم يفهموا ما كان أمام أعينهم على غرار الشخص الذي سرق المعلومات السرية» في إشارة الى سنودن.
وفي الايام الاخيرة، ذكرت صحيفتا «لوموند» و«إل موندو» نقلا عن وثائق سنودن أن واشنطن تجسست على أكثر من سبعين مليون اتصال هاتفي في فرنسا وستين مليون اتصال في إسبانيا خلال شهر واحد.
ولم تقتصر عمليات التنصت الأميركية على الاتصالات الهاتفية، بحسب ما كشفت الوثائق السرية، التي نُشرت مؤخراً في صحيفتي «الغارديان» البريطانية و«دير شبيغل» الألمانية، إضافة إلى صحف أخرى، بل امتدت أيضاً لتشمل مواقع الإنترنت والبريد الإلكتروني.
التنصت يطال العرب
وقد كشف موقع «ياهو نيوز» في إحصاء شامل لتقارير عديدة عن مراقبة وكالة الأمن القومي لحوالي 125 مليار مكالمة هاتفية حول العالم خلال شهر واحد فقط. وفي الوقت الذي ترى فيه هذه التقارير ان معظم تلك المكالمات التي تجسست عليها الوكالة جاءت من الشرق الأوسط، إلا ان بينها ما يناهز 3 مليارات في الولايات المتحدة ذاتها.
ونقلت التقارير عن ملفات سرية مسربة من قبل موقع «كريبتوم» رصد 124,8 مليار مكالمة خلال كانون الثاني (يناير) الماضي من قبل الإستخبارات الأميركية.
وجاء النصيب الأكبر من المكالمات التي اعترضتها المخابرات الأميركية –بحسب الموقع- من أفغانستان (21,98 ملياراً)، وباكستان 12,76 ملياراً. أما الشرق الأوسط فكان نصيبه من التنصت الأميركي كالتالي: السعودية والعراق، النصيب الأكبر، عند 7,8 مليار مكالمة لكل منهما، ثم مصر بحوالي 1,9 مليار، وإيران (1,73 مليار)، والأردن (1,6 مليار)، وجميعها خلال شهر واحد.
إحراج
وكانت وثائق سنودن قد تسببت بإحراج واسع لإدارة أوباما على المستوى الدولي، فقد أكدت المفوضية الأوروبية أن على الولايات المتحدة التحرك بصورة عاجلة «لاستعادة الثقة» مع الأوروبيين التي زعزعتها فضيحة التجسس على قادة الاتحاد الأوروبي، وكانت مجلة دير شبيغل قد كشفت يوم السبت الماضي ان الولايات المتحدة تنصتت على هاتف المستشارة الألمانية انغيلا ميركل لأكثر من 10 سنوات وأن أوباما ابلغ ميركل بانه كان سيمنع التنصت لو كان علم به.
كما نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤول أميركي مطلع أن أوباما أمر وكالة الأمن القومي أخيرا بالحد من التنصت على مقر الأمم المتحدة في نيويورك على ضوء احتجاجات زعماء دول العالم. بدورها، بدأت البرازيل بتدابير احترازية لحماية مواطنيها من التجسس، حيث أشارت تقارير إلى أنها تمضي قدماً في خطة لإرغام شركات الإنترنت العالمية على تخزين البيانات التي تحصل عليها من المستخدمين البرازيليين داخل البلاد. وعلى الرغم من معارضة شركات متعددة الجنسيات للبرمجيات ومعدات الكمبيوتر والاتصالات، فإن الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف تحث المشرعين على إجراء تصويت الأسبوع المقبل على مشروع القانون، وإذا تم إقراره فإنه قد يؤثر في طريقة عمل عمالقة الإنترنت مثل «غوغل» و«فيسبوك» و«تويتر» وشركات أخرى في أكبر بلد في أميركا اللاتينية وأحد أضخم أسواق الاتصالات في العالم.
ردود فعل داخلية
ويثير كشف المعلومات عن برامج المراقبة الواسعة لوكالة الأمن القومي -التي تشمل مواطنين أميركيين وأجانب وقادة دول أجنبية على حد سواء- القلق في الولايات المتحدة بشأن دور وكالة يعتقد البعض انها اصبحت خارجة عن السيطرة.
فقد نشر كلابر الأسبوع الماضي عدداً من الوثائق السرية حول برنامج التجسس لوكالة الأمن القومي، وتظهر هذه الوثائق التى يعود تاريخ معظمها إلى عام 2009 وبعضها إلى عام 2011، أن وزارة العدل الأميركية وافقت على التنصت على المكالمات من خلال الهواتف المحمولة ابتداء من عام 2010.
كما أشارت الوثائق، إلى أن وكالة الأمن القومى ومكتب التحقيقات الفدرالي ووزارة العدل كانت تبلغ أعضاء الكونغرس الأميركي بنيتها زيادة جمع المعلومات الخاصة بأرقام الهواتف ومدة المكالمات، وليس مضمون المكالمات.
وأمل أوباما الاثنين الماضي في أن تميز الاستخبارات بين قدرتها على المراقبة وما يطلب منها القيام به.
وفي السياق، رأت صحيفة «برافدا» الروسية أن المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي، إدوارد سنودن، قد أسدى خدمة للكونغرس بتنبيهه من وكالة الأمن القومي وضرورة تقليص تمويلها. وتساءلت الصحيفة عما إذا كانت تسريبات سنودن قد نبهت الرئاسة الأميركية ودفعت أوباما إلى الاعتذار لقادة العالم من أنه لم يكن يعلم بانتهاك خصوصيات نظرائه. ورصدت في هذا الصدد إشارة صحف أميركية إلى جهل أوباما بأن وكالة الأمن القومي لبلاده كانت تتجسس على 35 رئيساً عبر العالم، وهو ما اعتبره أحد النواب الأميركيين «مصيبة أكبر».
وفي سياق ردود الفعل الشعبية في أميركا نظم نشطاء حقوقيون تظاهرة في العاصمة واشنطن لشجب عمليات التجسس التي تطال الأميركيين وتنتهك حقوقهم المدنية، وقد تظاهر الاف المحتجين للمطالبة باقرار قانون لاصلاح برامج المراقبة المتهمة بانتهاك الحياة الخاصة. وجرت التظاهرة في ذكرى مرور 12 عاماً على اقرار قانون «باتريوت اكت» الذي منح وكالات الاستخبارات صلاحيات موسعة لمكافحة الارهاب وحماية الامن القومي.
وفي رسالة وجهها الى المتظاهرين، قال سنودن «اليوم، لا يجري احد في أميركا اتصالا بدون ان يكون له تسجيل لدى وكالة الامن القومي».
وحمل المحتجون لافتات كتبوا عليها «أوقفوا عمليات التجسس» و«شكرا لك يا سنودن» أثناء تجمعهم أمام مبنى الكونغرس. واجتذبت المسيرة محتجين من أقصى طرفي الطيف السياسي حيث سار أنصار التحرر الليبرالي جنبا الى جنب مع أعضاء من حركة «حزب الشاي» المحافظة للإعتراض على ما يعتبرونه تجسسا غير قانوني على الأميركيين.
وقال محتج يدعى مايكل غرين «اعتبر نفسي محافظا ولا أريد أي شخص محافظ من حكومته جمع معلومات عنه وتخزينها واستخدامها». وقالت محتجة اخرى تدعى جينيفر وين «علمنا على مدى الأشهر الماضية الكثير جدا عن انتهاكات الخصوصية والغياب الكامل للرقابة والمراقبة الشاملة في كل تفاصيل حياتنا. ونحن بحاجه إلى ابلاغ الكونغرس بأن عليهم أن يتخذوا إجراء».
ونظم الاحتجاج ائتلاف واسع النطاق من النشطاء وجماعات الحقوق المدنية يعرف باسم «توقفوا عن مراقبتنا» يضم «اتحاد الحريات المدنية الأميركي» وجماعة «احتلوا وول ستريت».
خطورة تسريبات سنودن
اعتبر مايكل موريل الذي كان يشغل منصب نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، أن تسريبات سنودن هي «الأخطر» على الاطلاق في تاريخ الإستخبارات الأميركية. وقال موريل في مقابلة مع شبكة «سي بي أس نيوز» إنه يعتبر سنودن «ليس بطلا، بل شخص خان وطنه»، لافتاً الى أن أخطر ما سربه سنودن هو الميزانية المفصلة لجميع وكالات الاستخبارات الاميركية والمسماة «الميزانية السوداء»، معتبرا ان تسريب هذه الموازنة يتيح لمنافسي الولايات المتحدة «تركيز جهودهم في ميدان مكافحة التجسس على المجالات التي ننجح فيها وعدم ايلاء الكثير من الاهتمام للمجالات التي لم نحقق فيها اي نجاح».
Leave a Reply