بيروت – يدخل اللبناني ماهر قصير الفيلم الوثائقي «ليال بلا نوم» من خلال كليشيهات فوتوغرافية أكلها الاصفرار، وصورة يقظة في حدقتي والدته مريم سعيدي التي تبدو فاقدةً لجزءٍ من ماضيها الفردي كأن إخفاء ابنها محا صِلاتها بما يُحيطها، فراحت تجرجر مأساتها وحسرتها بترفع يخونه غضبٌ عرَضي.
مشهد من «ليالٍ بلا نوم» |
ويقوم الفيلم الذي تخرجه اللبنانية إليان الراهب على شبه مواجهة بين الأم والمسؤول السابق في مخابرات «القوات اللبنانية» أسعد شفتري، الذي تحمّله وزرَ فقدان ابنها المراهق والمقاتل في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني في 17 حزيران (يونيو) 1982.
وفُقد ماهر قصير في معركة كلية العلوم في الحدث وهي إحدى مناطق خطوط التماس بين المنطقة الغربية ذات الغالبية الاسلامية والشرقية ذات الغالبية المسيحية في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
وخلال الحرب الاهلية التي استمرت 15 عاماً هام أهالي المخطوفين والمختفين قسرا والبالغ عددهم 17 ألفاً سنواتٍ طويلةً بحثاً عن أثر لأبنائهم بعدما غسلَ المسؤولون عن الحرب الأهليّة ايديهم من حصادِها المرّ.
وكان ماهر ضمن هؤلاء، غير أنّ لا أحد يذكر التاريخ، سواءً من المقاتلين الخصوم أوالرفاق أوالمسؤولين الرسميين أو الجريدة الحزبية. سقط ابنُ الخامسة عشر «سهواً» من قائمة «الحوادث الكبرى» التي تستحق التأريخ وغيرها مجرد هوامش.
تسعى المخرجة «إليان» إلى كسر ميثاق صمت غير معلن يكمِّم الأفواه منذ انقضاء الحرب الأهلية في 1990. وتختار لهذا الغرض مرافقة شفتري المنغمس بتمارين الإعترافات العلنيّة بما اقترفه في الحرب والتي تتبدى في الفيلم الوثائقي عرجاء وناقصة.
وعندما يُسأل كم شخص تورطتَ في اختفائهم؟ يردّ «لا أعرف». ويتحفظ شفتري على الإدلاء بما يعرفه في شأن ماهر قصير حماية لآخرين ويحاول مراراً استدراج الوثائقي إلى ساحته هو.
فعندما يجوب منطقة الكرنتينا حيث المقر الحزبي السابق، وحيث طمرت أرواح كثيرة، يرفض القبول بتعبير «مقبرة جماعية» ويفضل عليها تعبير «مكان تكديس الجثث». كتأكيدٍ إضافي على أنّ حرب المفاهيم التي اكتنفت الحرب الأهلية لم يخمدْ أوّارُها.
ما تعجز «إليان» عن اخراجه على لسان شفتري من تفاصيل وحيثيات، تذهب إليه مواربة على نحوٍ إستعاريٍّ عن طريق لقاء المحيطين به. نرافق شفتري خلال رحلة صيد في وسط رفاق السلاح القدامى وأبنائهم حيث يجري اصطياد أرنب ثم تقطيع أطرافه ورأسه كأنه خرقة. يسأل أحدُ المراهقين عن إحساسه عندما قنص الحيوان فيجيب بالفرنسية «تشعر أنكَ فخور عندما تقتل الأرنب».
في الفيلم شفتري متعدّد، شفتري مؤنسن بداية يشكو من أن تجربة الفيلم بالنسبة إلى المخرجة مجرد مشروع بينما ستتركه بلا نوم. وشفتري الباحث عن التكفير لاحقاً خلال لقائه «العدو» السابق المتعاطف مع الفلسطينيين، المطران غريغوار حداد ممددا على فراش المرض. لكنّ اللحظة لا تستمر وتفسح المكان لأسعد شفتري آخر معتد بنفسه يسطو على الجزء الأكبر من الوثائقي.
يروي أنه قتل أحدهم بسكين بعدما طلب منه ذلك ويستغرب انه لم يشعر آنذاك بشيء. لا يذكر الملامح أو الإسم، يذكر انه باغته من الخلف فحسب.
في أحد مشاهد الوثائقي (سيناريو وإنتاج نزار حسن) تصافح عين الرائي صور مفقودي الحرب اللبنانية الذين خصصت لهم جمعية «أمم للتوثيق والأبحاث» معرضا في شاحنة صغيرة بلا سقف تنقلهم على أنغام «يا مسافر وحدك». تلمس وجوهُ المفقودين الهواء تواقةً للخروج إلى الضوء.. إلى العودة للذاكرة من نسيانٍ قسريّ.
تشدِّد المخرجةُ على مقاربة فيلمها فنيّاً وهذا حق، لكنّ المحاولةَ عسيرةٌ عندما يتعلق الموضوع بوجعٍ بهذا القدر. تستدرج الحربُ المُشاهدَ إلى حيث لا يرغب، فيطغى هولُ ما حدثَ فعليّاً على أهمية السؤال: «كيف حدث؟».
ينتهي الوثائقي في أسفل درج كلية العلوم عند مساحة من الأرض قطرها 30 متراً مكان مقبرة جماعية، حيث روى مقاتلٌ من حزب القوّات اللبنانية المسيحي، نسمعه ولا نراه أنّ ماهراً وآخرين دُفنوا. لكن الاكتشاف يخلِّف حسرةً لأنه يبدو في السياق اللبناني مجّانياً.
لا يشبه الخروجُ من «ليالٍ بلا نوم» المجيءَ إليه. تضغط الحكايةُ على الأنفاس مثقلةً بما صنع منها جثثا ودماً حارّاً وفظائعَ اقتُرفتْ بدمٍ بارد.
Leave a Reply