تعتبر الأفلام التسجيليّة نوعاً من الفنون التي يصعب إطراقُ بابِها في جنسِ الفنِّ السابع، إلّا ما ندر، وقد تيسّرتْ لي فرصة مشاهدة واحد من الأفلام الداخلة ضمن هذا المنحى الفنّيّ، حيثُ دُعيتُ لمتابعة العرض الأول لفيلم «الثقافة والإيمان» من إخراج الإعلامي سمير حداد في ديربورن.
الشيخ السنجري والقس سولاقة عقب العرض الأول للفيلم. (عدسة نافع أبوناب) |
تناولَ الفيلم عبرَ حبكة فنّيّة وقائع مستمَدّة من الواقع العربي تجسّد العلاقة بين الثقافةِ والإيمان، واندماج البشر مع بعضِهِم البعض، بصرفِ النظر عن انتماءاتِهِم الدينيّة، الموضوع الأكثر انتشاراً وحسّاسيّةً في عالمِنا العربيّ خلال الأحداث المعاصِرة والتي نحيا تراجيديّتَها المأساويّة في حياةِ اليوم، وقد لفتَ انتباهي، الحضور المتميِّز لحشدٍ كبيرٍ من المثقّفين والشعراء والإعلاميّين، الذين أكّدوا وفق شهادات وآراء، بأنّ إنجاز مثل هذا العمل الفنّي يعتبر إضافة فنّيّة تواكب أحداثَ العصر، وإنّه ينطوي على قيمة فنيّة عالية، ولم يكن ذلك الإنجاز الفنّيّ غريباً على منتِج ومخرِج مثل الفنّان سمير حدّاد، الذي أظهرَ هذا العملَ الرائع والرصين في آن، وبهذه الحِرفيّة المكتنِزة، فهو صاحبُ الباعِ الطويل في هذا المجالِ الفنّيّ، كما أنّهُ المخرج التلفزيوني والمسرحي، الحاصل على الماجستير من جامعة سان فرانسيسكو عن أطروحتِهِ «عنتر وعبلة»، وقد سبق له وأخرجَ برنامجاً تلفزيونيّاً يحمل عنوان «شموع عربيّة»، البرنامج الثقافي الإجتماعي الذي لم يبرح أذهانَ متابِعيه.
عبّرَ العملُ الفيلميّ السينمائيّ، ولمدّة ساعتَين، عن المدى الواسع لاندماج الشعوب ببعضِها دون النظر إلى الإنتماءات الدينيّة التي هي اليوم حديث الشارع وتجّار الدين، وقد أثبتَ ذلك باسلوبٍ سينمائيٍّ مؤثِّر من خلال ظهور شيخ عربي مسلم (طالب السنجري) وهو يمسك بيد قسّ عربي مسيحي (الأب حنّا سولاقة) وكأنّهما أخَوان حميمان..
في القِسمِ الأوّل وهما يتحدّثان عن الأخلاق الحسنة التي تمثّل المشتَرَكات الإنسانيّة بين بني البشر، وانصِهار الشعوب ببعضِها ممّا تحجبُ تماماً أيَّ مظهرٍ من مظاهرِ التفرِقة بين مسلم ومسيحي على سبيلِ المثال، لأنّنا في النهاية كبشَر، نعود لمَرجِعٍ واحد وهو الله سبحانه وتعالى الذي يرعانا جميعاً.
أمّا القِسْمُ الثاني من الفيلم فهو يحكي عن تعاون عالم آثار مسلم (الدكتور مازن مرجي) وآخر مسيحي (صديقه سامح المعايطة)، وهما ينهمكان في تأسيسِ «متحف الحصن» للتراثِ الشعبي في الأردن، وأحييا معاً العادات والتقاليد الإنسانيّة العريقة والمشترَكة لجميع أتباعِ الأديان، فأظهرا للمجتمع أنّ تآلفَ الشعوب، يُبطِلُ الإدِّعاءاتِ الكاذِبة التي تروَّج في وطنِنا العربيّ الكبير، الداعية إلى التفرقة بين الأديان، والتي هي بالنتيجة تمزِّق أوطاننا العربيّة وتدمِّر منجَزاتِ الحضارة التي تأسّستْ فيها عبرَ عشراتِ القرون، ومن ثمّ تعطي الفرصة لكلِّ خائن أنْ يدُسَّ ُسمَّهُ في حياةِ الأسرة العربيّة الكبيرة، إستناداً إلى الحصيلة السيّئة التي يعرفُها الجميع (فرِّق تسُد) كما استعرضا آفاق التقدّم والرقِيّ في حياةِ الشعوب التي تشكّل أهمَّ عناصر توحُّدِها، كما أكّدا على ضرورة عدمِ الإنجِرار وراء العنصريّة التي هي مصدر التخلّف، ودعَيا الناس إلى المحبّةِ والتآلُف.
في نهايةِ الفيلم تكلّمَ فضيلةُ الشيخ السنجري عن أهميّة وفحوى ومعاني المحبّةِ، والإيمان بأنّ الجميع هم خلقُ الله ولأنّ اللهَ سبحانهُ واحِدٌ وهو راعي الجميع، ومن يحبُّ اللهَ فهو بالضرورةِ يحبُّ أخاهُ في الإنسانيّة، ويتمنّى لهُ ما يتمنّى لنفسِه، وقد وافقَهُ الأب سولاقة في ذلك.
وهنا أتساءل كم نحنُ بحاجةٍ إلى ترسيخ مثل هذه القيم العظيمة والسامية من أجلِ ضمان مستقبل أجيالِنا على الأرضِ العربيّة، في الحياةِ الحرّةِ الكريمة بدلاً من زرع الفتن التي لاتخدم سوى أعداء الأمّة، الفتن التي لاتمهِّد سوى للخراب؟ وهذا الفيلم أحد الوسائل الجماليّة الممهِّدة في هذا السبيل.
Leave a Reply