في بعض اللقاءات الإجتماعية، كثيراً مايوجه إليّ السؤال: من أين لكِ التفاؤل في هذا الزمن المتجهم والمزروع بالقلق على المستقبل.
عن أبي الفلاح، تعلمت الدرس الأول في التفاؤل، والتطلع أبداً إلى جهة شروق الشمس لا غروبها. كان رحمة الله عليه، على علاقة طيبة بالطبيعة، وبكل ما تحوي من مخلوقات صغيرة أو كبيرة. ولأن الطبيعة لا تكذب، كان يحبها فلا ينزعج من تقلبها ولا يشكو من غضبها في الحر والبرد.
لم يكن العمل في الحقل سهلاً. والمشاكل مع العائلة والجيران والفلاحين ومع الحياة اليومية، كانت صعبة ومتشابكة. ولأن الإنسان يتعلم بالتمثل والإقتداء، وجدتني أنقل عنه دروساً كثيرة، وأحفظ منه الأمثال الشعبية وأتحرى أسلوبه الحكيم البسيط في مواجهة أي أزمة وبطريقة منطقية وغير تقليدية، سهلة ممتنعة.. تعلمت منه أن أكثر المشاكل تعقيداً لها حل، إذا ما إستخدم الإنسان تفكيره، لا عاطفته.
مرةً حكى لي حكاية لازلت أذكرها.
في عهدٍ قديمٍ من التاريخ، وفي إحدى القرى النائية من جنوب لبنان كان هناك فلاح يزرع أرضه مصدر رزقه. ولعدة مواسم سيئة من الجفاف والقحط إضطر إلى الإستدانة سنة بعد أخرى من إقطاعي جشع، يستغل حاجة المزارعين للمال ويقرضهم إياه بفوائد عالية.
ومثل بقية المزارعين، تراكمت الديون على ذلك الفلاح المسكين، حتى بات عاجزاً عن سداد الدين.
وكان الإقطاعي السمين المرابي، قبيح «المنظَر والمـَخبَر»، كما يقول المثل الشعبي، قد لاحظ أن لذلك الفلاح البائس إبنة صبية ذات جمال ودلال، فوقعت عينه عليها، وراح يثقل كاهل الفلاح بديون إضافية، منتظراً اليوم المناسب للقيام بما سوّلت له نفسه.
وبالفعل هذا ماحدث. سأل الإقطاعي الفلاحَ أن يُرجع له ماله على الفور، إحتار الرجل في أمره، قبل أن يفاجئه «البيك» بسؤال وقح بأن يزوّجه إبنته الواقفة الى جانبه مقابل إعفائه من ديونه المتراكمة، وإلا سوف يجره إلى المحكمة العثمانية ثم يودعه السجن.
إحتار الأب من طلب العجوز المرابي، بالرغم من المصير القاسي الذي سيناله برفضه للعرض «السخي» ببيع ابنته مقابل المال والحرية.
اشتد الجدال بين الفلاح والعجوز، ما دفع المزارعين وعابري السبيل إلى التوقف يدفعهم فضولهم للإطلاع على نهاية «القصة العويصة» بين الإقطاعي من جهة وبين الفلاح وابنته من جهة أخرى.
راق الجو للإقطاعي الغني وأراد أن يكمل مؤامرته بحيلة خبيثة للحصول على الصبية. إقترح عليهما -الأب والأبنة- ترك «القدر» يقرّر ويختار الأفضل لهم، متعهداً بإطاعة مشيئته. إقترح أن يضعوا حصاة سوداء وحصاة بيضاء في كيس، ثم تسحب الفتاة واحدة منهما، فيكون أمامها وأمام أبيها ثلاثة إحتمالات:
1- إذا سحبت الحصاة السوداء عليها الزواج من الإقطاعي فوراً وسيسامح والدها على الديون.
2- إذا سحبت الحصاة البيضاء فإنها تعفى من ذلك الزواج وأيضاً يسقط الدين عن والدها.
3- إذا رفضت سحب الحصاة، فإن مصير أبيها السجن.
جمهرة الحضور شجعت الفكرة، وتمنى بعضهم التوفيق للفتاة وخلاص أبيها من الديون ومن السجن معاً. وافق الأب على إقتراح الإقطاعي، وهزت إبنته رأسها بالإيجاب.
كان الثلاثة يقفون على أرض مليئة بالحصى، فأخذ الإقطاعي والتقط حصاتين على عجل، ووضعهما في كيس قماش. لم ينتبه الأب ولا أحد من الحضور الى ما فعل الإقطاعي الغشاش.. لكن الصبية كانت تتمتع بذكاء حاد وبدقة ملاحظة شديدة، فانتبهت أن العجوز النصاب إنتقى حصاتين سوداوين ودسهما في الكيس، طالباً منها أمام الشهود أن تمد يدها، وتسحب واحدة…
كيف تخلصت الفتاة من هذه الورطة، فكّروا بالحل حتى العدد القادم.
Leave a Reply