في ظل انهماك لبنان بمتابعة مسلسل السيارات المفخخة، وقد زاد من خطورتها بروز إنتحاريين فيها، كما حصل في تفجير السفارة الإيرانية، عاد العدو الإسرائيلي في استهداف جديد له للمقاومة باغتيال أحد قادتها، حسان اللقيس، غير المعروف إعلامياً وسياسياً وشعبياً، ليرفع من حدة القلق لدى اللبنانيين الذين يعيشون مرحلة خطرة ودقيقة من أصعب ما عرفوه خلال العقود الأخيرة، إذ يسود الفراغ مؤسساتهم الدستورية المعطلة بسبب الخلافات السياسية، والصراع على السلطة وتقاسمها وتحقيق مكاسب منها في دولة يتمّ التعريف عنها بأنها «دولة المزرعة»، والتي تحوّلت الى «اللادولة».
اللقيس في صورة تجمعه مع السيد حسن نصرالله. |
فاغتيال اللقيس أعاد الى الأذهان اغتيال عماد مغنية (الحاج رضوان) قبل خمس سنوات في كفرسوسة، أحد أحياء دمشق وفي منطقة تعتبر أمنية، إذ فيها وجود كثيف لأجهزة الأمن السورية، بحيث نجح «الموساد الإسرائيلي»، في الوصول الى مغنية بتفخيخ أحد أبواب سيارته وتفجيرها به عندما كان عائداً وحيداً الى منزله، وهو الأسلوب نفسه الذي استخدم مع اللقيس ولكن بأسلحة مزوّدة بكواتم للصوت، حيث كمّن له المجرمون أمام منزله الذي يتردّد إليه من وقت الى آخر، ويقيم فيه من دون حراسة أمنية، ويصل إليه منفرداً دون مواكبة، ربما لأسباب أمنية كي لا يلفت الأنظار إليه ويُعرف مكان إقامته في منطقة سكنية لا تعتبر من ضمن «المربع الأمني» لـ«حزب الله» في الضاحية الجنوبية حيث الإجراءات الأمنية المشدّدة المتخذة حول مقرات الحزب وأماكن سكن بعض مسؤوليه، وقد زادت بعد تفجيري بئر العبد والرويس، وقد اختار اللقيس أن يكون له منزلاً على تخوم الضاحية في منطقة الحدث، في أحد الأبنية المنشأة منذ حوالي ثلاث سنوات.
واللقيس عرفه العدو الإسرائيلي منذ مطلع التسعينات وقد كشفه عملاء لجهاز الإستخبارات العسكرية «أمان» على أنه هدف محتمل، وأنه يجب إزالته، بعد أن تمّ جمع المعلومات عنه أنه يعمل تحت إمرة القائد العسكري للمقاومة عماد مغنية، وهو المسؤول عن تطوير الأسلحة في «حزب الله»، وهو مَن عمل على أن يكون لدى الحزب طيارة من دون طيّار، وأطلق أكثر من واحدة بإتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكان آخرها طائرة «أيوب» قبل أشهر التي اخترقت أجواء الدولة العبرية، وطارت في سمائها لساعات قبل أن تكشفها أجهزة الرصد الإسرائيلية، مما شكّل إرباكاً للعدو وفتح تحقيق عسكري حول التقصير الإستخباري بدخول الطائرة كما في حيازة المقاومة لها.
ومنذ ظهور هذه الطائرة، بات اللقيس هدفاً للعدو الإسرائيلي، الذي استغلّ انشغال «حزب الله» في القتال مع النظام في سوريا، وحربه ضد التكفيريين فيها وفي لبنان، بعد إنفجار السيارتين المفخختين وإطلاق صواريخ على الضاحية، فأعطى قادة الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية أمر عمليات بإغتيال اللقيس بعد أن تمّ رصده وجمع المعلومات عنه في خرق فاضح للمربع الأمني الذي سبق واغتيل فيه أحد قادة المقاومة خضر عوالي في العام 2004، وقبله علي صالح وكل منهما له صلة بتسليح المقاومة الفلسطينية والتنسيق معها في غزة والضفة الغربية.
ولقد كان اللقيس مطارداً من قبل العدو الصهيوني وعملائه، واستهدفه في أثناء حرب تموز 2006، عندما قصفت منزله طائرة من نوع «أف-16»، فقتل ابنه علي في الغارة، ثم جرت محاولة ثانية باستهداف سيارته قرب غاليري سمعان في الشياح ونجا منها.
واستمرت المخابرات الإسرائيلية بمطاردة اللقيس ونجحت في إصطياد أحد أبرز قادة المقاومة الذي كشف عن دوره بأنه كان أرفع مسؤول فيها ينسّق مع إيران في عملية تطوير الأسلحة، كما كشف تقرير استخباري غربي وإسرائيلي عن أن اللقيس كان مطلوباً في الولايات المتحدة وكندا لتجنيده عناصر من «حزب الله» ومؤيدين له، لشراء أجهزة تحديد أماكن (جي بي أس) ومناظير ليلية وسترات واقية ومضادة للرصاص، من خلال توفير تمويل لها من تجارة السيارات، التي بدأت تراقبها الإدارة الأميركية، وتفرض حظراً على أنشطة تجارية ومصرفية تعتبرها مصدراً لتمويل «حزب الله» الذي تصنّفه إرهابياً، واعتقلت عدداً من أعضائه.
ويأتي اغتيال اللقيس من ضمن اغتيالات عدة نفّذتها المخابرات الإسرائيلية، واستهدفت مَن تعتبرهم عناصر مسؤولة عن بناء قنبلة نووية، وتطوير قدرات صاروخية من الصواريخ القصيرة الى الطويلة المدى، إنشاء «شبكة إرهاب» إنتحارية على أعلى المستويات، وأن الهدف الإسرائيلي إزالة هؤلاء الأشخاص الواحد تلو الآخر.
ومن ضمن مخططها الدموي الإرهابي، والذي نفّذته ضد قادة المقاومة الفلسطينية على مدى سنوات في السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ولم يتوقّف مع مطلع القرن الحالي ومازال مستمراً، فإن هذا المخطط يُنفَّذ أيضاً ضد «المقاومة الإسلامية» حيث نجحت إسرائيل في إغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد عباس الموسوي في شباط من العام 1992، بقصف سيارته بطائرة «أباتشي» أثناء مروره في الجنوب واستشهد معه زوجته وابنه ومرافقيه، وكانت هذه فاتحة اغتيال العدو الإسرائيلي لقادة المقاومة، واستمر هذا المسلسل الذي كان الرد عليه بالطرق المناسبة من قبل المقاومة التي كانت فقدت الشيخ راغب حرب، الى أن وصلت الإستخبارات الإسرائيلية الى عماد مغنية في دمشق، حيث شكّل مقتله صدمة في 12 شباط (فبراير) من العام 2008، ليتبعه إغتيال العميد في الجيش السوري محمد سليمان الذي كان مسؤولاً عن البرنامج النووي السوري، ويعتبر المسؤول عن العلاقات بين سوريا وكل من إيران و«حزب الله»، وهو لصيق بالرئيس السوري بشار الأسد ويعتمد عليه في مشاريع دقيقة وحساسة، وفق وصف الرئيس السابق «للموساد» الإسرائيلي الجنرال مائير داغان، الذي رأى أن إغتيال مغنية وسليمان يأتي من ضمن الحرب على مثلث إيران-سوريا-«حزب الله»، وهو ما يفسر تزامن إغتيال مغنية وسليمان مع مقتل رئيس مشروع تطوير الصواريخ في «الحرس الثوري الإيراني» الجنرال حسن طهراني مقدم، ويتبعه إغتيال مسؤول العلاقات في حركة «حماس» مع إيران محمود المبحوح الذي وُجد مقتولاً في غرفته في أحد فنادق دبي، بدس السم له.
ويأتي إغتيال اللقيس من ضمن مسلسل القضاء على كل مسؤول له علاقة بتطوير الأسلحة الصاروخية وإنشاء شبكات المقاومة وتحصينها إذ كان للقيس دور هام وأساسي مع مغنية في إقامة التحصينات وتجهيز المقاومين بشبكة إتصالات ومناظير ليلية وأعتدة لوجستية مكّنت المقاومة من الصمود في حرب تموز 2006، وإلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، حيث ردّت المخابرات الإسرائيلية على هزيمتها هذه بإغتيال مغنية وبعد سنوات اللقيس، وهي تلاحق وتطارد غيرهم من القادة المجهولين في المقاومة والمعروفين بإنتصاراتها.
وجاءت لحظة إغتيال اللقيس في وقت يحتدم فيه الصراع بين «حزب الله» والجماعات التكفيرية، لإعطاء هذه العملية طابعاً مذهبياً، حيث نفت إسرائيل مسؤوليتها، ليصدر بيانين عن تنظيمين غير معلومين بإسم «أحرار السّنّة في بعلبك» وآخر حمل إسم «أمة الإسلام»، لإستبعاد إسرائيل عن العمل الإجرامي، وتأجيج الصراع السّنّي-الشيعي، بعد كشف مَن يقف وراء التفجير في الضاحية الجنوبية والسفارة الإيرانية، وهي جهات تكفيرية موجودة في عرسال والمخيمات الفلسطينية والشمال وتنسّق وتتعاون في تفخيخ السيارات مع «جبهة النصرة»، و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش).
وقد تمّ التصدّي لمحاولة إشعال فتنة سنّيّة-شيعيّة، وإبعاد التهمة عن العدو الإسرائيلي الذي يستفيد منها ويعمل لها، لتعطيل قدرات المقاومة ومحورها في سوريا وإيران، من خلال العمل على تفكيكه لأنه يشكّل سدّاً في وجه إسرائيل لتحقيق أهدافها، وقد ساءها الإتفاق الإيراني-الغربي حول البرنامج النووي السلمي الإيراني، وكذلك المبادرة الروسية حول السلاح الكيميائي السوري، مما عطّل أهدافها بإضعاف سوريا وإيران والمقاومة في لبنان، فكانت عملية إغتيال اللقيس رسالة إسرائيلية للرد على هذا الإتفاق الذي وإن توفرت له آلية سليمة للتطبيق، سيُخرج المنطقة من الحرب الى السلام، وسيغيّر في إستراتيجيات عدة أميركية وروسية وأوروبية، وسيرسم حدود المصالح بين الدول. ويبقى السؤال الدائم، وهو عن رد المقاومة على إغتيال قائد منها، حيث الجواب لدى مسؤوليها، أنه يأتي في الوقت المناسب، وسيكون بمستوى خسارة اللقيس وقبله مغنية ومَن سبقهما، وساحة الصراع مفتوحة للمقاومة أمام العدو في كل مكان، والأفعال تشهد.
Leave a Reply