يزخرُ مجتمعُنا العربيّ في قاعِ حياتِهِ اليوميّة، كما على سطحِها، إن كانَ في المُغتَرَب أو كان في بلادِنا الأمّ، بالعديد من المُفارَقات والظواهر التي تُثيرُ الإنتباه، مؤشِّرةً بالنتيجة، إلى مواطِنِ الخلل أو الصواب، خلالَ مسيرتِهِ المتشابكة مع التعقيدات والتقريرات المُعدّة، لتحديد مسارِهِ الحياتيّ والأخلاقيّ.
وإذ تستحضرني هنا واحدةٌ من هذه المفارَقات، فلا بدّ من العودةِ إلى جذورِها، فمثلاً عندما يقرأ المرءُ أويسمع كلمة الحبّ، يتبادرُ إلى ذهنِهِ فوراً (شبق الغرام)، أو الحبّ بمكنوناتِهِ السرّيّة، في حين أنّه الهواءُ المُشاع، الذي يسّرهُ الخالقُ العظيم لكائناتِه، بحيث قرَنهُ بالمودّةِ والرحمةِ، فشملَ الأهلَ والأزواجَ والأبناءَ والأحفاد والأقارب، ثمّ تعدّاها إلى الأممِ والشعوب.
والحبُّ الذي أتناولُ بحثَهُ المُثير، يكادُ يتمحورُ في دائرةِ القصّة، لاضمن مقالةٍ عابِرة، حيث استثارني ذلك الحبّ الإستثنائيّ المتفاني إلى الحدودِ الأبعد، حتّى تشكّلَ لديَّ ما يشبه القصّة، كانت بطلتُها أقربَ صديقاتي إلى قلبي.
ربطتْنا إلى بعضِنا صداقةٌ امتدَّ زمنها إلى خمسةٍ وثلاثين عاماً، بكلِّ ماحملَتْ من شجونٍ، وهفهفةِ لحظاتِ فرح نادرة، الصداقة التي مازالتْ متدفِّقةً مُفعمَةً بالمودّةِ والإخلاص كما بدأتْ، عرفتُها وكان في عينيها بريقٌ مازِلتُ أخالُهُ تتجمّعُ فيه لألأةُ العالَم وبريق سحره، وذكاءٌ خارقٌ يثقبُ الصخرَ حِدّةً.
كانتْ متزوّجةً من إعلاميٍّ معروف، ذي شخصيّةٍ كارزميّةٍ، لهُ حضورٌ يميِّزُهُ عن الآخرين ولكن على قولِ المثَل (الحلو لا يكمل)، ولديها منهُ باقة جميلة من الأبناء، لاأستطيع تمييزَهم عن أولادي وبناتي، كان زوجُها قد ارتبطَ بعلاقةٍ مع زميلةٍ له في العمل، أخذَ يصحبُها معه إلى بيت الزوجيّة، ويطلب من زوجتهِ تقديم الطعام لها بالإضافةِ إليه، عدا عن إصدارِهِ الأوامر لها بتحضيرِ القهوة، وإظهار الحفاوة التي تليق بالضيف الأميرة (العشيقة!!) دون أدنى مراعاةٍ لشعورِ الزوجة المغلوبة على أمرِها.
توطّدت العلاقةُ بالعشيقة، فتتوّجتْ بزواجِهِ منها على مسمع ومرأى من زوجتِه وأبنائه، ثمّ أخذَ يغيّر من أسلوب معاملتهِ، بحيث بدأ يعامل زوجته وأبناءَه بفظاظةٍ وغلظة وجفاء، حتّى أخذَ الأبناء ينفرون منه، ويبتعدون عن مجالستِه، غيرَ أنّ الزوجةَ من شِدّة حبِّها له، تحمّلتْ غدرَه وخيانتَه ولم تُثِرْ نيرانَ الخصام بينها وبينه، كانت تهيمُ به، فيما هو يهيمُ بغيرِها، لأنّ المحبّةَ التي تختزن بين الضلوع لاتجد طريقَها إلى الخصومة.
حملَت الزوجةُ الثانية وقرُبَ موعدُ الولادة، حتّى إذا داهمها الطلْق، سارعتْ صديقتي إلى الإتّصال بي، طالِبةً منّي مساعَدةَ ضرّتِها أي زوجة زوجِها، بحكم عملي آنذاك في إحدى المؤسّسات الصحيّة الحكوميّة، فلم أقفْ من طلبِها موقِفاً إيجابيّاً، رغم أنّهُ ينطوي على حالةٍ إنسانيّةٍ تقع في صميم اختصاصي العلمي والعملي، لكنّني تراجعتُ أمام دماثة أخلاق صديقتي التي أدهشَتْني، إذ هل هناك من سيّدة تمدّ يدَ العَون إلى مَن خطفتْ زوجَها، وتسبّبَتْ في تعاستِها؟ وهل خشونة معاملة زوجِها أصبحتْ ناعمةَ الملمس داخل قلبِها؟ أخيراً لبّيتُ طلبَها وحقّقتُ لها ما أرادتْ.
ولدى معاودتي لضرّتِها، أثناء زيارتي الثانية لها، إنتابني الذهول لحظةَ شاهدتُ أنّ صديقتي قد حوّلَت الغرفةَ إلى حديقةٍ غاصّةٍ بالأزهار الزاهية المتعدِّدة الألوان والأشكال، بالإضافةِ إلى جلبِها للأنواعِ العديدة من الشكولاتة الغالية الثمن، والعصائر المتنوِّعة، ناهيك عن الملابس الفاخرة التي وضعتْها بترتيبٍ أنيقٍ إلى جانبِ السرير، كلّ هذا ولم تألُ جهداً في السهرِ على خدمتِها، بعدَ أن نقلتْها إلى بيتِها، ومداراتها أثناء فترةِ النِفاس، حتّى إذا اجتازت تلك الفترة، عادتْ للإلتحاق بعملِها، لتتولّى صديقتي، العنايةَ بالطفلة الوليدة، ورعايتها، وتربيتها وتدليلها، حتّى أصبحَ عمرُها ستّ سنوات.
بعد مغادرتي الخليج، والتِحاقي بعائلتي هنا في ديربورن، استمرّت العلاقةُ بيننا دون انقطاع عبرَ وسائل الإتّصال البريديّة والهاتفيّة وأخيراً الإيميل، ومنذ فترةٍ قصيرة، زرتُ بلدي لبنان، وعرجْتُ في عودتي على الخليج، كانت صديقتي هي وزوجُها بانتظاري في المطار حيثُ استقبلانني هناك، كانتْ ملامحُ الزهو المشوبة بوقوع أمرٍ جديد تطفو على وجهِها، ومن خلال ابتسامتها العريضة التي تفصِح بهِ، في الوقت الذي كانت ملامحُ وجهِ زوجِها توحي بمزيجٍ من الهزيمة والإنكِسار والشعور بالندم، إذ علِمتُ بعد ذلك أنّ الزوجةَ الثانية قد طردتْهُ من البيت الذي يسكنانه سويّةً، وأهانتْه أمامَ زملائه، ومسحَتْ بكرامتِهِ الأرض، ممّا اضطرّهُ إلى تركها، والعودة إلى أحضانِ عائلتِه، محطَّماُ كسيراً مهزوماً، ليتعدّى ذلك إلى الإستقالةِ من وظيفتِهِ، كي يتجنّبَ نظراتِ زملائه المتدنّية له، والحفاظ على ما تبقّى له من كرامة.
هكذا أجد أنّ إقدامَ الفرد على فعلةٍ ما، دون النظر إلى العواقب، لابدّ وأن تودي به إلى مثل ماأودتْ بصاحبِنا فقيد الكرامة التي هي أعزّ مايعيشه الإنسان أو يخلّفهُ بعد حياتهِ.
Leave a Reply