يقوم شعار «الجماعات الإسلامية السلفية» على «جاهلية المجتمع وحاكمية الله»، ومنه تبدأ حملة التكفير والتهجير والقتل والتخريب، وتصدر الفتاوى بالأعمال الإرهابية الإنتحارية، وهذا السلوك بدأ يظهر منذ مرحلة الثمانينات في القرن الماضي، وقد إستخدمت دول وأنظمة هذه الجماعات في مشاريعها السياسية ومصالحها، وهذا ما حصل بشكل مفضوح في الحرب الأميركية على النظام الشيوعي في أفغانستان، فكان لا بدّ من وجود تنظيم إسلامي يخوض المعركة ضد «الفكر إلحادي»، وتأمين تعبئة دينية ضده، فكانت الجماعات الإسلامية جاهزة لذلك، وبدعم من دول خليجية وجمعيات ومدارس دينية، نشأت في دول عديدة ونمت في شرق آسيا.
من الحرب الأميركية ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان من ضمن «الحرب الباردة» بين القطبين العالميين أميركا والإتحاد السوفياتي، والمعركة التكفيرية التي خاضتها جماعات إسلامية سلفية متطرفة، نشأ تنظيم «القاعدة» العالمي برئاسة أسامة بن لادن، واستولت «حركة طالبان» على الحكم في أفغانستان بعد إسقاط الحكم الشيوعي فيها، وقام نظام ديني مستبد متخلّف يحطّم الآثار وينسف الأضرحة ويقتل مَن يخالفه في الرأي العقائدي والفكري والإيمان الديني من المسلمين والمسيحيين، وبدأت أصولية تكفيرية تنشط في العالم وتقيم لها خلايا وتتموّل من دول ورجال مال وأعمال وأمراء في دول الخليج، حتى باتت هذه الظاهرة أقوى من صانعيها، فانفجرت بوجه مَن درّبها وسلّحها ونظّمها، فكانت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بتفجير البرجين في نيويورك والهجمات على وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، بطائرات فجّرها إنتحاريون، ليكتشف الأميركيون أنهم أمام أعمال إرهابية لتنظيم «القاعدة» رعته إدارتهم وسهّلت له دولتهم الحصول على كل مقومات النجاح، حيث تبيّن أن 19 من الإنتحاريين الذين قتلوا كانوا من جنسيات عربية أكثرها سعودية، وواحد لبناني يدعى زياد الجرّاح. فـ«القاعديون» الذين تحوّلوا في العالم العربي إلى «أفغان عرب»، بعد عودتهم من أفغانستان باتوا أجساداً متفجرة وعمليات إنتحارية وحروباً عسكرية بدأت في الجزائر ثمّ مصر والسودان والصومال التي لجأ إليها بن لادن وشمال أفريقيا وفي دول آسيا الوسطى وجمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق في القوقاز والشيشان إلى السعودية واليمن وتونس والأردن ولبنان.
في هذا المناخ العالمي لظهور «إسلام تكفيري»، عرف لبنان أول عمل إجرامي له، بقتل رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش) الشيخ نزار الحلبي في العام 1994، والذي يتبع مدرسة الشيخ عبدالله الهرري الذي قدِم من الحبش (أثيوبيا) في الستينات من القرن الماضي وأقام في سوريا ثمّ في لبنان، وبدأ يدعو إلى محاربة «الفكر الوهابي» الذي بدأ يتغلغل بين المسلمين والذي أسّسه الداعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن التاسع عشر في السعودية، ويدعو للعودة إلى السلف الصالح والتمثّل بسيرة النبي محمد والخلفاء الصالحين»…
ولقد أعلن تنظيم «عصبة الأنصار» عن مسؤوليته عن قتل الحلبي وإعتقلت القوى الأمنية المجموعة القاتلة التي قامت بعملها بوضح النهار وحوكم أعضاؤها بالإعدام الذي نفّذ بهم بإستثناء أميرهم محمد السعدي الذي كان يقيم في مخيّم عين الحلوة الذي بات يخضع لسيطرة القوى والجماعات الإسلامية التكفيرية ومنها «جند الشام» و«فتح الإسلام» التي قاتلت الجيش في مخيم نهر البارد في أيار عام 2007.
ومعركة الجيش مع القوى التكفيرية بدأت مطلع العام 2000 في جرود الضنية عندما قامت جماعة أسمت نفسها «التكفير والهجرة» بالصعود من طرابلس التي كفرت المجتمع فيها، وقررت الصعود إلى مناطق نائية لا سكان فيها، لتبدأ منها بإقامة «حكم الله» والتمدّد نحو المجتمع الجاهل لنشر الدعوة الإسلامية، وإنشاء الخلافة الإسلامية وترؤس أمراء لإمارات تنشأ على شرع الله بحسبهم، وإسقاط النظام الذي هو من صنع البشر دستوراً وقوانين ومؤسسات دولة، لا تمت إلى «الشريعة الإسلامية» بشيء، بل هي أفكار مستوردة من الغرب وما يسمى ديمقراطية وحكم الشعب للشعب، في حين أن الإسلام يقوم على حكم الله وشرعه، ولا يجوز الشرك بهذا الموضوع.
وهذه الأفكار رأت «جماعات إسلامية» أن عليها أن تطبقها ليس في بلاد المسلمين أو الدول التي إنتشر فيها الإسلام، وحتى في الدول الغربية من أوروبا إلى أميركا وكل الأنظمة التي تعتمد الدساتير والقوانين الوضعية ومن صنع الإنسان وليس من شرع الإسلام.
وقد قامت إمارات في طرابلس في ثمانينات القرن الماضي عندما سيطرت حركة «التوحيد الإسلامي» عليها وطردت كل القوى اليسارية والقومية والعلمانية، وأخرجت الجيش السوري منها، لتقع عاصمة الشمال في قبضة أمراء كان من أبرزهم الشيخ سعيد شعبان رئيس حركة التوحيد والشيخ هاشم منقارة، إلاّ أن هذه التجربة لم تدم طويلاً وأسقطتها الأحزاب الوطنية والقومية واليسارية بمعركة عسكرية بمساعدة الجيش السوري.
والمحاولة تعاد من جديد ومن طرابلس كما من صيدا، وأن المعركة تبدأ مع الأحزاب العلمانية والشيعة الرافضة، إلى الجيش الذي هو الهدف الأول للقوى التكفيرية التابعة لتنظيم «القاعدة» الذي يحاول أن تكون له السيطرة على لبنان الذي إعتبره «أرض نصرة» في التسعينات لمساندة أهل السنّة والجماعة في العراق وسوريا، وتحوّل هذا الأمر إلى مساندة أهل السنّة والجماعة في لبنان، وهو ما عبّر عنه مؤسس «الجماعة السلفية» في لبنان الشيخ داعي الإسلام الشهال، بأن المعركة هي مصيرية ووجودية للسّنّة في لبنان لإخراجهم من «الذل الذي يمارس عليهم» كما يقول من قبل الجيش والدولة ويساندهما «حزب الله»، حيث جرت محاولة لإسقاط ثكنة الجيش في القبة وطرده منها وإخراجه من طرابلس لإقامة «إمارة إسلامية»، في شمال لبنان تتواصل مع توائمها في سوريا، حيث كان متوقعاً أن تقوم إمارة في حمص وفي ريفها، يكون لها إمتداد في لبنان، لكن معركة القصّير أسقطت الإمارتين معاً.
وإن ما حصل في صيدا من تفجير إنتحاريين نفسهما بحاجزين للجيش اللبناني، بعد حوالي الشهر على التفجيرين الإنتحاريين أمام السفارة الإيرانية في بيروت-الجناح، يكشف عن أن المعركة بدأها تنظيم «القاعدة» في لبنان الذي بات موجوداً بقوة، بعد أن كان بعض المسؤولين اللبنانيين ينكرون وجوده إلى أن بدأ بأعمال التفجير التي تبنّت إحداها «كتائب عبدالله عزام»، وأن العناصر الإنتحارية هم من أنصار الشيخ الفار من وجه العدالة أحمد الأسير الذي أسقط الجيش مربعه العسكري والأمني في عبرا في نهاية حزيران الماضي، وأنهى تهديده للسلم الأهلي، وتحريضه على الفتنة المذهبية السّنّيّة-الشيعية، إذ كان مطلوب منه إقامة خطوط تماس بين صيدا السّنّيّة وحارتها الشيعية، لكن المحاولة فشلت فلم تنجر حارة صيدا إلى إستفزازات الأسير الذي أسر عاصمة الجنوب وبوابة المقاومة، وقد فعل ذلك بغطاء أو غض نظر من قبل «تيار المستقبل» ونائبيه فؤاد السنيورة وبهية الحريري، وقد رأوا في ظاهرة الأسير محاولة لردع «حزب الله» ومقايضة على سلاحه، وهو ما فعلوه في طرابلس بين باب التبانة ذات الكثافة السّنّيّة وجبل محسن ذات الإنتماء العلوي، لكن إنقلب السحر على الساحر، وباتت العاصمتان الشمالية والجنوبية في قبضة المسلحين من القوى السلفية، إلى أن حسم الجيش المعركة مع الأسير في صيدا وشرقها، ويتهيّأ لفرض الأمن في طرابلس التي هي أكثر تعقيداً، لتعدد أمراء الحرب وقادة المحاور العسكرية فيها، وإلتزام مرجعيات طرابلسية رسمية وسياسية ودينية بالتمويل والدعم السياسي والأمني. فما حصل من إعتداء على الجيش إستهدف حاجزين في صيدا، كان متوقعاً منذ انتهاء معركة عبرا، لأن القوى الإسلامية التكفيرية، تعمل ومنذ سنوات على إسقاط المؤسسة العسكرية وإنهاء دورها، لأن وجودها يشكّل عائقاً أمام إنشاء إمارات إسلامية، وأن تنظيم «القاعدة» قرّر فتح المعركة في لبنان مع «دولة الكفار» والروافض، وأن البداية هي مع الجيش لأنه العمود الفقري الذي تقوم عليه الدولة اللبنانية الكافرة.
Leave a Reply