يطوي اللبنانيون عام 2013، على وقع مسلسل التفجيرات التي كانت آخر حلقاتها -حتى الساعة- في البقاع الشمالي على الطريق المتفرعة من بلدة اللبوة باتجاه صبوبا في محلة النبي موسى، حيث استهدفت سيارة مفخخة بحوالي خمسين كيلوغراماً من المتفجرات مركزاً لـ«حزب الله» لكنها لم توقع به إصابات مباشرة، بل أضراراً مادية في السيارات، لأن المكان الذي حصل فيه التفجير كان مكشوفاً في أحد المناطق الجردية، واشتبه بالسيارة التي تمّ تفجيرها عن بعد، ولم يحقق المهاجمون هدفهم، حيث اتبع ذلك إطلاق عشرة صواريخ على بلدة الهرمل، أعلنت «جبهة النصرة» مسؤوليتها عن العملية، كما عن التفجير، مما يؤكّد على أن الجماعات المسلحة التي تنتمي الى تنظيم «القاعدة» باتت ناشطة وفاعلة في لبنان، ومتوغلة في مناطقه، إذ يتم التداول بحوالي عشرة آلاف عنصر من هذا التنظيم موجودين في الشمال والبقاع الغربي والأوسط والشمالي وصيدا والمخيمات الفلسطينية التي تحتضن منظمات وجبهات وحركات لها ارتباط بـ«القاعدة» حيث يشكّل مخيم عين الحلوة الثقل الرئيسي لها.
مواطنون لبنانيون يسعفون الجرحى في موقع اغتيال وزير المالية السابق محمد شطح بانفجار في وسط بيروت، صباح الجمعة. |
فهذا العام كان عام التفجيرات بامتياز، بعد أن غابت لسنوات لتعود الى الساحة اللبنانية بقوة، وتمّ ربطها بتدخل «حزب الله» في سوريا ومشاركته في القتال الى جانب النظام، حيث استهدفت سيارات بيئته الشعبية في الضاحية الجنوبية والبقاع، وعبوات ناسفة لمواكب مسؤوليه، ثمّ السفارة الإيرانية، وانتقل التفجير الى مسجدين في طرابلس، وكان هدف المخططين إشعال فتنة سنّيّة-شيعية، إذ كانت المسافة الزمنية بين تفجيرات الضاحية وطرابلس قريبة جداً وقد نجح مَن قام بهذه العمليات التفجيرية بذلك، إذ شحن المواطنين من الطائفتين السّنّيّة والشيعية، بعد أن تبيّن من التحقيقات الأمنية والقضائية أن عناصر من «جبهة النصرة» و«داعش» و«كتائب عبدالله عزام» تقف وراء السيارات المفخخة في بئر العبد والرويس والسفارة الإيرانية، وأن مَن قام بها هم عناصر لبنانية وفلسطينية وسورية، وأن عرسال شكّلت المعبر والمكان الآمن للسيارات التي كانت تفخخ في مناطق جبال القلمون في سوريا وتحديداً في يبرود، لكن «حزب الله» ردّ على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، أن عرسال ليست مستهدفة بل عناصر ومجموعات تكفيرية فيها، لكن ما حصل أن الإتهام بتفجير مسجدي التقوى والسلام في عاصمة الشمال، توجه الى الحزب العربي الديمقراطي وأمينه العام علي عيد، إضافة الى الشيخ أحمد الغريب المنتمي الى «جبهة العمل الإسلامي» برئاسة الشيخ هاشم منقارة، حيث استغل هذا الإتهام لتوجيه ضربة الى حلفاء «حزب الله» وسوريا في طرابلس خصوصاً، والشمال عموماً، إضافة الى علي عيد وابنه رفعت لما يمثلانه من وجود شعبي في جبل محسن الذي قررت قيادات طرابلسية تنتمي الى «تيار المستقبل» اجتثاث الحزب العربي الديمقراطي المرتبط بالنظام السوري و«حزب الله»، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل بعد 18 جولة من القتال، كانت تفصل بينها هدنات أمنية لم تستمر مع سقوط الخطط الأمنية المتتالية، ومعها الإجتماعات التي كانت توفر الغطاء السياسي للجيش والقوى الأمنية لتنفيذها ولم تنجح لارتباط قادة محاور القتال في باب التبانة بمسؤولين وزعماء طرابلسيين .
ويمكن وصف 2013 بعام «المعارك الأمنية» أيضاً، ففي منتصفه تمت عملية إنهاء ظاهرة الشيخ أحمد الأسير الذي اتّخذ من مسجد بلال بن رباح مربعاً أمنياً وعسكرياً له، ليأسر مدينة صيدا، ويرهن قرارها في اعتصاماته في محاولة لعزلها عن محيطها وعمقه الجنوبي، حيث كان يلعب لعبة خطيرة وهي إقفال الطريق على المقاومة التي كانت حاسمة بأنها إذا اضطرت لفتح الطريق بالقوة فلن تتأخر، لكنها وضعت المسألة في عهدة الحكومة التي تعاطت بمرونة مع الأسير وسايرته إلى أن بدأ حجمه يكبر مع تجواله في المناطق لتوتير الأجواء في بيروت والشمال والبقاع وحتى جبل لبنان، من أجل جذب الأنظار إليه على أنه حامي السّنّة بوجه «حزب الله» وسلاحه، واستخدم تعابير لاذعة وغير لائقة، فنال من السيد نصرالله والرئيس نبيه بري ورموز شيعية، وكل ذلك لإثارة فتنة بعد أن أطلق الغرائز المذهبية باللجوء الى نبش ماضي الخلاف السّنّي – الشيعي، وإثارة قضية السيدة عائشة زوجة النبي محمد.
إلاّ أن الشيخ الأسير الذي أنهى الجيش مربعه الأمني، عاد اسمه ليظهر مع تفجير السفارة الإيرانية ثم حاجزي الجيش اللبناني عند جسر الأولي في صيدا ثم مجدليون، إذ أظهرت التحقيقات أن عناصر تابعة له كمعين أبو ظهر ومحمد ظريف وبهاء السيد هم مَن قاموا بأعمال التفجير، ليتبيّن أن المجموعات الإرهابية التكفيرية باتت تمسك بالساحة السّنّيّة في لبنان شمالاً وجنوباً وبقاعاً وعاصمة، مع إنكفاء «تيار المستقبل» لما يمثله من خط معتدل، وعدم وجود رئيسه سعد الحريري في لبنان، وتغاضي قيادته عن نمو الحركات التكفيرية والمتطرفة التي لجأ اليها عدد لابأس به من عناصر «المستقبل» بعد أن توقف دفع الرواتب وتلاشى التنظيم، وهو ما تنبّه له النائب وليد جنبلاط وحمّل «تيار المستقبل» ورئيسه الحريري المسؤولية عن تنامي القوى السلفية والتفكيرية، والتي ظنّ «المستقبليون» أنهم يضعونها في مواجهة «حزب الله» وخصوصاً والشيعة عموماً، كي يسلموا بآل الحريري في السلطة لأن البديل عنهم سيكون التكفيريون الذين سيحوّلون لبنان الى عراق آخر، وهذا يفرض على «حزب الله» أن يعيد النظر بوجود مقاتليه في سوريا الى جانب النظام، وتسليم سلاحه للجيش في الداخل، بعد أن انحرف عن مهمته.
هذا الموقف من «حزب الله»، عرقل تشكيل الحكومة برئاسة تمام سلام، إذ أقفلت السنة على عدم ولادة الحكومة بعد تسعة أشهر على تكليفه بعد استقالة الرئيس نجيب ميقاتي الذي حاول عبرها أن يقدم من جديد أوراق اعتماده الى السعودية مع النائب وليد جنبلاط ظناً منهما أن النظام في سوريا آيل الى السقوط، وهو الرهان الذي اعتمد عليه كثيرون في لبنان والخارج، لكن ذلك لم يحصل بعد أن كان متوقعاً أن لا يصمد الرئيس بشار الأسد لأكثر من أسابيع مع بدء الأزمة في 25 آذار (مارس) 2011، إلا أنه تمكن من أن يمنع نجاح المؤامرة على سوريا سواء بتقسيمها أو وقوعها في يد قوى تفكيرية، وهيمنة دول خارجية على قرارها، وهذا الوضع غيّر من المعادلات في سوريا التي أصبح النظام فيها في موقع الهجوم وتحقيق تقدم في الميدان وفرض نظريته أنه يخوض حرباً ضد الإرهاب وهو ما انعكس على الداخل اللبناني بحيث بات حلفاء سوريا أقوى ويفرضون تشكيل الحكومة التي لا تعزلهم بعد أن كان فريق «14 آذار» و«تيار المستقبل» فيه يعمل على حكومة حيادية يكون «حزب الله» خارجها بحجة أن لا تضم حزبين، في وقت أن رئيسها سلام هو من «14 آذار» ومسمى منها وبدعم من السعودية التي وضعت «فيتو» على مشاركة «حزب الله» في الحكومة واستجاب لها الرئيس سلام مدعوماً من «المستقبل» وكاد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أن يقع في فخ نُصب له، أن قبوله على حكومة «أمر واقع» من حياديين تفتح له الطريق أمام التمديد له في رئاسة الجهمورية، لكن رفض جنبلاط السير بهذه المغامرة والمخاطرة، أثّر على قرار سليمان الذي بات هاجسه عدم حصول فراغ في رئاسة الجمهورية، بعد أن شلت المؤسسات الدستورية عبر حكومة تصريف أعمال هي الأطول في لبنان، وبات وجوده دون الدولة ومؤسساتها في شبه انهيار، مع الفساد الذي يضرب في كل مكان دون رقيب وحسيب، في ظل الإتهامات المتبادلة سواء بين وزراء في حكومة مستقيلة، أو مع رئيسها، حيث يخشى أن يستمر الوضع الحكومي حتى انتخابات رئاسة الجمهورية المشكوك بحصولها في موعدها الدستوري، إذ التمديد أو الفراغ هما السمتان اللتان تتحكمان بالوضع اللبناني، الذي يعيش مرحلة دقيقة وخطرة إذ تأجلت الإنتخابات النيابية عن موعدها الذي كان مقرراً في أيار (مايو) الماضي، ومدّد المجلس النيابي لنفسه مدة عام ونصف العام من دون تبرير مقنع، سوى أن المانع عن إجرائها هو الوضع الأمني إضافة الى عدم الإتفاق على قانون انتخاب، وهو ما يذكر بما كان سائداً في أثناء الحرب الأهلية، التي مدد مجلس النواب لنفسه اثناءها منذ العام 1976 حتى العام 1992، وبعد التوصل الى إتفاق الطائف الذي أنهى الحرب، وقدّم خارطة طريق للخروج من الأزمة السياسية والدستورية ببرنامج إصلاحي لم ينفذ، لا بل حصل إنقلاب على الطائف، وبات الحديث عن ضرورة قيام طائف جديد يعيد النظر في تكوين النظام السياسي وتركيبة السلطة وتوزيع المسؤوليات العليا، وتعديل في الصلاحيات.
فمع تمديد مجلس النواب لنفسه، تأكّد للبنانيين أن الدولة الى انهيار، بعد أن تم تصنيفها على أنها فاشلة، عندما لا تستطيع الحكومة أن تجري انتخابات لتداول السلطة، أو تشكيل حكومة أخرى، أو حصول إنتخابات رئاسة الجمهورية، فهذه مؤشرات الى أن لبنان دخل مرحلة اللادولة وانهيار مؤسسات الدولة التي صنفتها المنظمات الدولية على أن لبنان يتقدم في مراتب الدول التي يحكمها الفساد المرتبط بالطبقة السياسية الحاكمة، ومنذ عقود، وقد حاولت عهود متتالية أن توقف الفساد، لكن العملية كانت تتم بزج أشخاص من العهد السابق، في السجن أو تقديمهم الى القضاء، دون أن تنتهي حالة الفساد لأن النظام السياسي الطائفي هو الذي يحمي الفاسدين، ودون إصلاحه وتغييره، فالعلة ستبقى قائمة.
لقد ختم لبنان عام 2013، على إنهيار الدولة بالتمديد والفراغ وتعميق الإنقسام السياسي والطائفي بين اللبنانيين وضعهم من جديد أمام حرب أهلية باردة، من خلال التفجيرات والإغتيالات والإشتباكات المتنقلة، حيث لم يغب العدو الإسرائيلي عن المشهد اللبناني بإغتيال أحد قادة المقاومة البارزين والفاعلين حسان اللقيس الذي كشف السيد حسن نصرالله عن دوره القيادي الهام جداً داخل المقاومة التي بقيت في حالة استنفار بمواجهة العدو الذي اشتبكت مع دورية له في منطقة اللبونة عند الحدود مع لبنان عندما تخطّت الخط الأزرق وخرقت السيادة اللبنانية، وهو ما فعله الجيش اللبناني المتأهب دائماً للتصدي لجنود الإحتلال كلما حاولوا التقدم بإتجاه الأرض اللبنانية، هذا ما حصل في العديسة والناقورة ورميش.
2013 كانت عام الإنهيار والتفجيرات في لبنان، مع تعثر المبادرات السياسية وتعطل الحوار بين اللبنانيين، بالرغم من الدعوات الدائمة إليه، إذ ارتبطت الأزمة اللبنانية بالأزمة السورية خصوصاً وأزمات المنطقة عموماً، وهو ما بدأ ينعكس سلبياً على الوضعين الإقتصادي والإجتماعي، بتراجع النمو الى صفر بالمئة وانكفاء الإستثمارات، والخوف من حصول إنهيار إقتصادي مع تفاقم أزمات إجتماعية لا يرى المواطنون سوى الشارع يلجأون إليه، فعام 2013 اللبناني كان عام التصدع والإنفجارات، فكيف ستكون سنة 2014؟
Leave a Reply