جميلةٌ هي الحياة بمجراها الطبيعي، وانسيابيّتها العفويّة، وصورها المُضيئة، التي تبعث على الطمأنينة، وحين تستوقفني المظاهرُ السلبيّة التي أصادفها في مغترَبِنا الأميركي أو «وطنِنا الجديد»، إنّما أودّ الإشارة إليها بغية المُقارنة بينها وبين ما عشناه ولمسناه في وطنِنا الأم، خاصّةً ما يتعلّق هنا باللّهاث وراء أمورٍ وأشياء منقطعة الجذور عن الماضي الجميل الذي كنّا نحياه دون تصنُّع.
في كتاباتي لا أبغي التجنّي على أحد، ولكنّني أبتغي عقدَ المقارَنة بين التصرّف المفيد ونقيضِه غير المفيد.
كانت الغالبيّة العظمى من أمّهاتِنا تنجب من الأبناء بنيناً وبنات عدداً يتجاوز السبعة وصولاً إلى ما يتعدّى الأحدَ عشر، وكنَّ رغم ذلك يتمتّعن بحيويّةٍ ونشاط دؤوبَيْن، حيث لا يتوقّفن عن الحركة في البيت من أجلِ النهوض بأعباءِ العائلة، ما بين مهامّ المطبخ والتنظيف وغسل الفرش والملابس وكيِّها، دون أن يتوقّفن عن ملاحقة الأبناء في حسن التوجيه والتربية والإرشاد، إضافةً إلى القيام بواجبات خدمة الضيوف الزائرين سواءً من الأقارب أو المعارف أو الجيران، من دون أن يكترثن لعددهم، حيث كانت قلوبهنّ مفتوحةً لهم قبل بيوتهنّ. لم تقتصر جهود أمّهاتنا على أعباء البيت، وإنّما تعدّت إلى مساعدة أزواجهنّ في الحقل، وجني المحصول، وتخزين «المونة» بما يكفي للموسم اللاحق، وهنّ في أغلب الأحيان يكوننّ حوامل، وكثيراً ما كانت أعدادٌ منهنّ يلدن في الحقل، كلّ ذلك كان يجري دون تذمّرٍ أو تأفّفٍ أو شعورٍ بكرهِ الحياة.
الأمّهاتُ كنّ يحرصنَ على تربية أبنائهنّ حرصاً كاملاً، وبالمقابل، كان الأبناء أوفياء لأهلهم ومطيعين لأمّهاتهم، فلقد كنّ يحرصنَ على إرضاعهم الرضاعة الطبيعيّة من صدورهنّ، فاختزنوا الحنانَ الصادق الذي ما انفكّ أن انعكسَ على حسن ولائهم لأهلهم وإطاعتهم واحترامهم، على عكس جيل اليوم، الذي يمشي دون أن يسمع، ويأكل ولا يشبع، ويخرج ولا يرجع، والسبب يعود إلى حليب الرضاعة، الذي تربّوا عليه!! أجل حليب البودر الذي حوّلَ ولاءهم إلى حياة «الأوكشن»، لقد ارتكبت الأمّ اليوم، خطأً فادحاً حين اعتقدَتْ بأنّ إرضاعها لطفلِها عن طريق «الفورمولا»، يحافظ على رشاقتِها، دون أن تعلم بأنّ الرضاعةَ الطبيعيّة تساعد على إعادةِ جسمِ الأمّ لوضعِهِ الطبيعي كما كان قبل الحمل.
كانت العائلة سعيدة، قنوعة برزقها رغم شحّ المورد وضيق العيش، غير أنّ قوّة الإيمان والإخلاص كانا سبب الإستقرار الأسَري الذي نفتقده اليوم سواء أكان السبب في ذلك الرجل أو المرأة أو كلاهما معاً، وهنا أعرجُ على وفرة موارد العيش وكثرة النقود بين أيدي الناس، ممّا انعكس سلباً على تصرّفات سيّداتنا الكريمات اللواتي أصبحنَ يعقِدْنَ مجالس وحلقات احتساء القهوة الصباحيّة التي تمتدّ لساعاتٍ طويلة بين تدخين الأركيلة، وقراءة الفنجان دون أن يفوتَها حبكات النميمة، ونشر الغسيل، وتبادل إطلاق النكات التافهة، وإرسال واستقبال صورٍ أتفه، عبر أحدث موديلات الهواتف التي يتسارعن إلى اقتنائها ولو على «الكردت» أو السِلف أحياناً!! فالمهمّ أنّ فلانة لا تكون أحسن من عِلّانة، و«كلُّنا أولاد تسعة».
هنا يعود الأبناء من المدارس، علّهم يجدون أطباقاً مغدِّيَةً من الطعام على مائدة الغداء، فتكون المفاجَأةُ بانتظارهم، لأنّ سعادةَ حضرة الأمّ قد طلبت طعاماً جاهزاً من المطعم على طريقة «الدليفري»، وعندما يحضر الزوج عائداً من العملِ مُنهكَ القوى، قد أخذ الجوع منه مأخذَه، عليه أن يتناول ويلتهم ما تبقّى من فضلات الطعام على الطاولة، وليس من حقِّه السؤال عن عدم تحضيره في المنزل، لأنّ حضرة زوجتِه ليست أقلّ منزلةً من جارتِها التي تطلب كلَّ يوم طعاماً جاهزاً واصلاً إلى البيت، مع أنّ أولئك النسوة يختزنّ أغلى الأنواع من أدوات الطبخ و«الطناجر» ومن أشهر الماركات، حيث يقتنينها للزينة والمباهاة، وليس للإستعمال، ويحرصن على رصِّها على الرفوف لتعطي رونقاً للمطبخ يجذب الإنتباه، ولا يُستعمل منها ربّما سوى التي تستخدَم لقلي البيض أو سلقه.
وعلى الرغمِ من أنّ هناك زوجات يستوجب منحهنّ الأعذار، كأن يعملن في وظيفةٍ خارج المنزل، تستهلك أوقاتِهنّ ساعاتُ العمل، فلا يتوافرن على الوقت الكافي لتحضير طعامِ الأسرة، إلّا أنّ حتّى هذا العذر لايعفيهنّ من انعدام الوسيلة، إذ بإمكانهنّ تحضير الطعام مساءً وحفظه في الثلّاجةِ لليوم الثاني لتناوله بعد تسخينه لفترةٍ لاتستغرق دقائقَ معدودة، وإذا تعذّرَ ذلك باستمرار، فعلى الأقلّ لمرّةٍ أو مرّتيْن في الأسبوع.
وهنا لا يجوز التعميم، إذ أنّ هنالك سيّدات كثيرات من جاليتنا مهتمّات ببيوتهنّ وعوائلهنّ على أكملِ وجه، وإنّما أوردتُ أمثلةً، بغية تسليط الضوء على نماذج سائدة من الزوجات اللواتي لا يبدين أيَّ اهتمام إلّا بالمظاهر الكاذبة وتقضية الوقت بـ«أمور فاضية» وبعيدة عن دورهنّ في خدمة الأسرة ومن خلفها المجتمع.
وربّما يعود السبب في هذا الخلل، إلى الإعتقاد السائد لديهنّ، بأنّ سلوكَهنّ السلبيَّ الذي أوردته يوحي لهنّ بمظاهر الحضارة والتمدّن، ومجاراة العصر، بينما الحضارة يا سيّداتي تقتضي صبّ الجهود في رعايةِ البيت والزوج والأبناء والحرص على تربية وتنشِئة جيل صالح، بالإضافةِ إلى تطوير المهارات الفرديّة وتحصين العقل والنفس بموارد الثقافة، وابتكار أشياء مفيدة للبيت وللأسرة التي هي بالنتيجة ستصبّ في خدمة المجتمع، والسيّدة الناجحة هي التي تنشر المعرِفة في محيطها، وبذلك تكون سيّدة مجتمع في محطّ أنظار وإعجاب الجميع، وإلى مجالس عامرة بالمعرفة والثقافة، وابتكار أفضل الطرق في تنشئة الجيل الجديد، وإسعاد البيوت.
Leave a Reply