مع مساعيه للعودة الى كرسي رئاسة الحكومة في لبنان -بالشراكة مع «حزب الله»- عاد النائب سعد الحريري لاتهام النظام السوري باغتيال والده، وذلك بعد أن ذهب بقدميه الى دمشق معتذراً للرئيس بشار الأسد قبل خمسة أعوام.
هكذا.. دون أي دليل جديد. وكأنه اتهام تحت الطلب!.
فـ«حزب الله» الذي تم استدعاء خمسة من قياداته العسكرية لقفص الإتهام، بحجة اتصالات هاتفية أجريت في منطقة وسط بيروت صبيحة يوم الإغتيال، بريء من دم الحريري الأب، وفق علم المنطق وسيرة الحزب، الذي لم يكن اتهامه سوى للتأجيج المذهبي والضغط السياسي، منذ أن قدم «المغدور»، وسام الحسن، «أدلة» تورطه.
ولو ثبت ضلوع «حزب الله» بهذه الجريمة فهذه نهايته التي يستحقها، لأن رفيق الحريري رجل، والرجال قليلون.
فالشهيد لم يحاجج يوماً بغير المنطق، لكن أين ابنه من ذلك؟ وأين منه السنيورة الذي لم يحتَج أكثر من دقائق معدودة ليوزع الإتهامات في جريمة اغتيال الوزير السابق محمد شطح، مكتشفاً أن «المجرم واحد» -دون أن يجرؤ على تسميته- رغم أن البلد على كف عفريت، وأبوابه مشرعة أمام كل مجرمي العالم.
على كل حال، لا أحد من «محبّي» الشهيد الحريري مهتم بمعرفة «الحقيقة».. رغم أن خيوطها واضحة، بحاجة الى من يمسكها، ليصل الى رأس الأفعى. وإذا كان سعد الحريري «Gives a shit» لمعرفة الحقيقة، لكان على الأقل سأل. لكن يبدو أنه يعرف بالغيب. وربما هذا ما جعل له الأولوية على أخيه الأكبر، بهاء، في وراثة امبراطورية والده، التي تمتد من أفقر بيوت الريف السني في لبنان الى أفخم قصور الرياض وباريس، لا لأن السعودية اختارته لمهمة «قيادة» سنّة لبنان الذين جمعهم لها الشهيد!.
لا يسأل الحريري نفسه: لماذا اختفى وسام الحسن صبيحة يوم اغتيال والده.. وهو المسؤول عن أمن موكبه؟ ولماذا حدد الحسن مسار الموكب قبل أن يختفي بحجة امتحان جامعي تبين أنه لم يخضع له أصلاً؟ ولماذا ترك الموكب ذلك اليوم تحديداً وهو لم يفعل ذلك قط على حد اعترافاته للجنة التحقيق الدولية؟ هل هي الصدفة؟ إذن لماذا لم يظهر الحسن بعد الإنفجار الذي وصل دويه الى منزله والى الجامعة حيث كان من المفترض أن يؤدي امتحانه مع باقي زملائه الذين أنكروا جميعاً -بالصوت والصورة- وجوده معهم ذلك اليوم (برنامج «تحت طائلة المسؤولية» على قناة «الجديد»)؟
هو قال للمحققين إن هاتفه كان مغلقاً لحظة وقوع الإنفجار الضخم..
البلد انقلبت ولم يشعر الحسن بشيء. ولم يظهر إلا بعد ساعات من وقوع المجزرة.
يبقى السؤال الأهم: كيف أصبح الحسن، الذي فشل بحماية أهم شخصية سياسية في لبنان، أهم رجل أمن في البلاد ويتمتع بنفوذ واسع وعلاقات خارجية أوسع، كما يشرف على كل المعلومات التي تصل الى لجنة التحقيق الدولية؟.
خيوط الحقيقة واضحة، إلا لمن أعماه الجهل أو الحقد، أو الإثنان معاً.
طبعاً قرار اغتيال الحريري.. لم يتخذه الحسن الذي نال جائزة كبرى بصعوده أعلى سلم النفوذ بلبنان الذي شهد انقساماً سنياً شيعياً غير مسبوق في التاريخ.
أما خيانة الأمانة فليست سابقة. فكل من يسدي خدمات «جليلة» كهذه لا بد من مكافأته.. الى حين.
اغتيال الحسن قد يكون قطعاً للخيوط.. وقد يكون مجرد تصفية حسابات دولية، سيما بعد التجرؤ على تفجير «خلية الأزمة» في دمشق التي راح ضحيتها أربعة من خيرة الضباط السوريين.
لا يهمّ.. لأن البصمات تبقى لمن يريد أن يصل الى الحقيقة.
المحكمة الدولية ليست مسيّسة، ومن المستحيل أن تدين عناصر «حزب الله» دون توفر دليل إدانة (وهو أمر غير متوفر بشهادة القاضي). لكن مكتب الإدعاء «مسيّس الى العظم»، فالمتهمون الخمسة مطلوبون بالإسم من المخابرات الإسرائيلية، تماماً كما وُزّعت التهم على الضباط اللبنانيين الأربعة الذين سجنوا ظلماً لأربع سنوات، لإخلاء الجو لـ«ثورة الأرز» التي لم يُكتب لها النجاح، بسبب التناقض الشاسع بين أهدافها من جهة، ومستوى وتاريخ قادتها.. وهوية داعميها الخارجيين من جهة أخرى.
لبنان أحد ينابيع التاريخ القليلة بين النيل والفرات حيث نبتت الحضارة والإنسانية. وستلتئم جراحه بجهود قياداته الوطنية ووعي وحضارة شعبه.. ربما بعد سنوات. لكن لبنان سيعود ليتمتع بثروة الطوائف، رغم أنف من قرر اغتيال الحريري.
الحسن شخصية رحلت.. والتاريخ مستمر.. والصباح آت لا محالة…
***
في ربيع العام ١٩٩٩، ذهبت أنا الشيعي البعلبكي، مع صديقي الدرزي الشوفي وآخر سني بيروتي الى طرابلس لمشاهدة مباراة ودية لمنتخب لبنان بكرة القدم. أخذنا الباص من محطة شارل حلو في بيروت الى قلب «عاصمة الشمال»، لمشاهدة المباراة والتسكع وأكل الحلويات والتدخين بشراهة بعد أن «فركناها» من ثانوية «الروضة»، التي كان يشرف عليها المناضل التربوي الكبير، المسيحي الفلسطيني، قيصر حداد.
كنت مراهقاً وكانت أول زيارة لي -دون الأهل- الى تلك المدينة الساحرة على ضفاف المتوسط. كانت البلاد بمدنها وقراها مفتوحة لأبنائها وللجميع، حتى لعملاء المخابرات و«سواح الدعارة»… لم نكن لنسأل.
كانت الأرض لمن يطأها.. ألا زلتم تذكرون؟
Leave a Reply