كان يجب علّي البقاء عند ابنتي في فلوريدا، حيث الدفء والشمس، لا العودة إلى ميشيغن بثلوجها وبردها القارس، وسماع النقّ والشكوى من كل من هبّ ودبّ. وكأن هذا البرد لم يمر علينا من قبل.
على ما يبدو أن أهلنا وربعنا أدمنوا الدفء والرفاهية هنا في أميركا، ونسوا من أين أتى الكثير منا. من بيوت بسيطة، بدون تدفئة وماء ساخن وأغلبها بدون حمامات، بيوت مشرعة للبرد والريح والثلج «نازل بالدني تجريح»، كما غنت فيروز. كانت بيوتاً نأوي إليها رغم البرد والزمهرير، وفيها مايكفي من الطعام والشراب الساخن.
المؤلم والمعيب هنا في «يونايتد ستايتس أوف أميركا»، أن هناك الملايين من المشردين والمعوزين. فماذا يحدث لهم في هذا الشتاء المرير؟؟
أتلقى من خلال عملي، كل يوم عشرات الأسئلة والطلبات من أجل المساعدة لإيجاد مأوى لأناس فقراء يعيشون تحت خط الفقر، ليس بإستطاعتهم دفع إيجار بيت ولا دفع الفواتير الشهرية من غاز وكهرباء ومياه. أناس من لحم ودم هنا في أميركا «بلاد الفرص»، يفتقدون حتى لسقف يقي رؤوسهم بسبب جشع الشركات الكبرى الساعية دوماً لمضاعفة أرباحها بالإستغناء عن الألوف من الموظفين والعمال، دون أية شفقة.
شركات انهارت وأخرى تم الإستحواذ عليها من شركات أكبر، والعمال والموظفون مجرد «فرق عملة» كما أموال المستثمرين العاديين الذين ذهبت أموالهم هباء بسبب مخيلات مريضة بالغرور والطمع.. وربما أيضاً بسبب الحروب العبثية في أفغانستان والعراق والدعم اللامحدود لدولة إسرائيل.
تبين أن لافرق إطلاقاً بين رجال المال والسلطة عندما سرق برنارد مادوف من الناس ٥٠ مليار دولار، وغيره من رجال الأعمال الأميركيين، الذين نهبوا أضعاف ذلك، تحت سقف الإعتماد على ثقوب القانون، الذي اعتاد أن يحمي الحرامية وليس الضحايا.
مؤخراً، زرت مع إبنتي في فلوريدا، «مركز كيندي لعلوم الفضاء». هذا المركز حالياً، عبارة عن مدينة واسعة شاسعة كمتحف أو معرض سفن الفضاء والصواريخ والمركبات، التي كلفت الولايات المتحدة تريليونات من الدولارات خلال القرن الماضي في سباق محموم مع الإتحاد السوفيتي آنذاك، للوصول إلى القمر وسياسة عرض العضلات في حرب النجوم وغزو الفضاء.
يزور المركز كل يوم، المئات من الزوار. يأتون من كافة أنحاء العالم للإطلاع على الأبحاث والتجارب المضنية، وتطبيقات علوم الرياضيات والفيزياء. حتى تمكن نيل أرمسترونغ من الهبوط على سطح القمر وعاد ببضعة حجارة لا تنفع أحداً، حجارة يتم عرضها في داخل أهرامات زجاجية ووضعها في «فترينات» فاخرة وكأنها جواهر ثمينة.
لأنني إنسان بسيط وقروي وساذج، لم تجذبني معروضات «مركز كيندي» رغم شغفي بالعلوم وإنبهاري بها. لكن علم الفضاء ليس ضمن أولوياتي ولا تهمني معرفته. بل تهمني العلوم التي غيرت حياتنا نحن البشر على الكوكب الذي وهبنا الله إياه. العلم الذي بنى الطرقات والجسور لتسهيل حركة الناس ووضع شبكات الصرف الصحي. العلم الذي إكتشف البنسلين والحبوب المسكنة لأوجاع الرأس.
عقول جبارة وتريلونيات الدولارات، تستخدم للتدمير والهدر، بدلاً من إستخدامها للبناء والتضامن. ثمة أناس كثيرون في مدن أميركية عديدة يعانون من الفقر والجوع والمرارة وبدون مأوى في هذا البرد القارس، يؤرقهم النوم بدون عشاء ولا يجدون لأولادهم مدرسة لائقة للذهاب إليها.
هل تخيلت حياتك بدون بيت؟؟ أو بيت بدون تدفئة وبلا مياه ساخنة؟؟
هل جربت التنقل في هذا الطقس القارس بدون سيارة؟ هذا السؤال وغيره لكل النقّاقين في ديربورن ممن يملكون كثيراً ومع ذلك لا يحمدون ربهم ولا تسمع منهم إلا الشكوى.
Leave a Reply