سجّل تشكيل الحكومة في لبنان، أطول فترة زمنية في تاريخ الحكومات منذ الإستقلال إذ بلغ أقصى عمر في ولادة حكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1969 حوالي سبعة أشهر، في حين أن الرئيس تمام سلام إستغرق عشرة أشهر وعشرة أيام لتأليف حكومته، وما رافقها من تعقيدات داخلية وتطورات إقليمية ودولية لا زالت مفاعيلها تتجلى على الأرض، وكان آخرها الهجوم الإنتحاري المزدوج الذي استهدف منطقة بئر حسن عند أطراف ضاحية بيروت الجنوبية وتسبب بسقوط عشرات الضحايا.
الرؤساء الثلاثة، سليمان وبري وسلام، يتوسطون أعضاء الحكومة الجديدة. |
قبل حوالي عام تقريباً، إستقالت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، الذي أعطى تبريراً لها بأنه تمّ رفض اقتراحه للتمديد لمدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي في منصبه، ولكن تبيّن أنه ليس هو السبب، بل محاولة منه وبدفع من النائب وليد جنبلاط لكسب رضى السعودية التي انقلبا عليها وعلى حلفائها في لبنان. وقد وُعد ميقاتي من قبل جنبلاط، أنه باستقالته يصححا معاً خطأ ارتكباه مع السعودية التي شعرت أنها خسرت موقعها في لبنان، بإقصاء الرئيس سعد الحريري عن رئاسة الحكومة، وتشكيل حكومة لـ«حزب الله» الكلمة الفصل فيها، على أن يتم تكليفه من جديد، لكن ما وعد به جنبلاط ميقاتي، لم يتحقق لأن السعودية رفضت عودة ميقاتي الذي أقفلت أبواب المملكة بوجهه ولم تغفر له، وكذلك «تيار المستقبل» و«14 آذار»، فتم الإتفاق على سلام أن يكون رئيساً لحكومة تشرف على الإنتخابات النيابية، ونال رضى سعودياً نفّذته «14 آذار» بتسميته من بيت الوسط، ونجح جنبلاط بإقناع الرئيس نبيه بري أن تسمي قوى «8 آذار» سلام، وتكون شريكة في الحكومة، وأنه لن يؤيّد حكومة لا تكون هذه القوى فيها، وكانت الضمانة الجنبلاطية دافعاً لنيل سلام شبه إجماع نيابي بتسميته بـ124 صوتاً، لم ينله أي رئيس حكومة.
وبعد تكليفه، لم يستفد سلام من هذا الإجماع النيابي، فرفع شعارات عالية السقف، بأن الحكومة ستكون حيادية، ومن غير وزراء إستفزازيين أو مرشحين على الإنتخابات النيابية التي ستشرف عليها الحكومة، وسيستخدم صلاحياته الدستورية بتشكيل الحكومة مع رئيس الجمهورية، دون العودة الى الكتل النيابية مسقطاً ما ورد في إتفاق الطائف، إن مجلس الوزراء أصبح السلطة التنفيذية، وهو السلطة السياسية التقريرية التي تجتمع فيها القوى السياسية الفاعلة الممثلة في مجلس النواب، لتحصل على ميثاقيتها التي أكّد الدستور عليها، وبات تشكيل حكومة سياسية ممراً إجبارياً تطبيقاً للدستور، بحيث تتمثّل فيها الشرائح الطائفية لتؤمن المشاركة الفعلية لكل مكونات المجتمع السياسي والطائفي في نظام يقوم على الطائفية السياسية المؤقتة الواردة في المادة 95 من الدستور عبر توزيع السلطات نسبياً بين الطوائف والمناطق، وهو ما يطبق في توزيع النواب طائفياً ومذهبياً ومناطقياً، عبر قانون إنتخاب يقوم على الطائفية، ومنه تتكون السلطة، وقد نص إتفاق الطائف على تشكيل هيئة وطنية لإلغائها، ولم يطبق ذلك وهو الأبرز والأهم في تطوير النظام السياسي.
فمنذ تكليفه ألزم سلام نفسه بشروط لا تتفق مع الدستور ولا مع الواقع السياسي والطائفي، وكان يطبق «أجندة» سياسية لفريق «14 آذار»، يقضي بعزل «حزب الله» وكل مكونات «8 آذار» عن الحكومة تحت عنوان الحيادية، فوضع هو بنفسه العصي في دواليب تشكيل الحكومة، وبات أسير موقفه المستند الى طلب منع مشاركة الحزب في الحكومة، قبل سحب مقاتليه من سوريا، مما زاد من تعقيد الوضع السياسي، لاسيما بعد مشاركة «حزب الله» في معركة القُصير في ريف حمص والقريبة من الحدود اللبنانية–السورية، وطرد المسلحين منها، وتعديل موازين القوى لصالح النظام السوري، وهو ما أدى الى تعميق الأزمة الداخلية، وتعثر تشكيل الحكومة، حيث طلب من سلام أن يصر على حكومة حيادية أو أمر واقع بصيغة ثلاث ثمانات تتكون من شخصيات غير حزبية قريبة سياسياً من «8» و«14 آذار»، فجوبه سلام بأنه هو غير حيادي ومن فريق «14 آذار»، ولا يمكنه فرض شروطه، وعليه أن يتعقّل في مطالبه، ليتبيّن أن القرار السعودي كان أن يتصلّب في مواقفه الرافضة لتشكيل حكومة سياسية، وقد ساندته «14 آذار» برفض المشاركة في حكومة يتمثّل فيها «حزب الله» الذي هدّد بأن أية مغامرة من قبل سلام بتشكيل حكومة حيادية أو أمر واقع يوافقه عليها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، فإنه سيلجأ الى العصيان المدني وعدم تسليم الوزارات، وقد التقط النائب جنبلاط هذا التهديد وفرمل جموح سلام الذي كان يتلقى ضغطاً من قبل «14 آذار» أن يمارس صلاحياته بتشكيل الحكومة، ولا يأبه للتهديدات، لأن «حزب الله» الغارق في المعارك بسوريا، لا يمكنه أن يفتح عليه جبهة داخل لبنان، ولن يعيد تجربة 7 أيار 2008، لأن مَن يقاتلهم من التكفيريين في سوريا، باتوا يفجرون ساحته وبيئته الشعبية بالسيارات المفخخة والإنتحاريين.
وفي مقابل الشروط التي وضعها سلام، ورفض فيها الحكومة السياسية، أو الثلث الضامن لحكومة تتمثّل فيها قوى سياسية، تقدّمت «8 آذار» بصيغة حكومية من 9+9+6، وهي تمثّل كل القوى السياسية، ويكون الثلث الضامن فيها لكل من «8» و«14 آذار»، لكن هذه الصيغة لم يوافق عليها الحريري الذي شدّد مع تياره السياسي على حكومة حيادية، إلى أن حصل تبدّل في المناخ الدولي، وحصل تقارب إيراني– أميركي على الملف النووي الإيراني الذي حصل إتفاق حوله مع الدول الست، مما خفّف من الإحتقان الإقليمي، كما حصل إتفاق أميركي–روسي على موضوع السلاح الكيميائي السوري بتدميره ووقف الضربة العسكرية الأميركية على سوريا التي هدّد بها الرئيس الأميركي باراك أوباما.
هذا التحول الدولي والإقليمي، حول البرنامج النووي الإيراني والإتفاق حول مراقبة التخصيب، والدفع الأميركي– الروسي بعقد مؤتمر «جنيف 2» لتطبيق ما اتفق عليه في «جنيف 1» بين القطبين الدوليين في حزيران 2012، لحلّ سياسي للأزمة السورية، فساعدت هذه التطورات على إبقاء لبنان بعيداً عن الوضع المتوتر في المنطقة، والحفاظ على الإستقرار فيه، وهو قرار دولي–إقليمي تم إبلاغه الى القيادات اللبنانية أن يبتعدوا عن الحريق السوري الذي بدأ يدخل الأراضي اللبنانية من خلال العمليات الإرهابية بتفجير السيارات وكان اخرها التفجير المزدوج لسيارتين في بئر حسن قرب المستشارية الثقافية الايرانية وثكنة للجيش وسكن لقيادات حزبية وسياسية ودار للايتام الاسلامية نجوا من التفجير مع دخول القوى التكفيرية إليه، وإنشاء قواعد لها، وهذا ما بات يقلق كل اللبنانيين، أن يتحوّل لبنان الى أرض جهاد مع إعلان كل من «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام« (داعش) عن وجود لها عبر ما أعلنه أحد أمرائها من طرابلس «أبو سياف الأنصاري»، وهذا ما حرّك انشداد الساحة السنّيّة نحو التيارات والحركات التكفيرية والمتطرفة مع تصاعد الأحداث في سوريا وهو ما دفع الرئيس الحريري الى إعلان موقف يؤكّد أن السّنّة في لبنان معتدلون وليسوا متطرفين أو تكفيريين، ولم يلقَ موقفه هذا ترحيباً من الجماعات الإسلامية السلفية الجهادية، التي بدأت تسحب البساط من تحت أقدام «تيار المستقبل» والقوى السياسية السّنّيّة المعتدلة، وهو ما ترجمه في قبوله المشاركة في الحكومة ويتمثّل«حزب الله» فيها الذي كان أسقط رفضه لصيغة ثلاث ثمانات والثلث الضامن، وأبدى مرونة في تشكيل الحكومة، وكلّف الرئيس نبيه برّي إدارة مفاوضات حول الحكومة مع النائب وليد جنبلاط الذي خفّف من شروط الرئيس سلام ودعاه الى القبول بحكومة سياسية، وهو ما اقتنع به الحريري الذي خرج من أمام المحكمة الدولية في لاهاي، وبعد ثاني يوم من بدء أعمالها، والتي اتهم قرارها الظني عناصر من «حزب الله» بإغتيال الرئيس رفيق الحريري، فأعلن عن قبوله المشاركة مع الحزب في الحكومة.
ولقد حصل تنازل من طرفي الصراع في لبنان اللذين تلقيا نصائح دولية وإقليمية أن يعملا على تسوية داخلية تبدأ في تشكيل الحكومة وإجراء انتخابات رئاسة الجمهورية، وهو ما حصل، فولدت الحكومة التي تخلى فيها كل طرف عن شروطه، فتنازل الحريري عن رفضه مشاركة «حزب الله»، وهو تعبير عن أن السعودية تتّجه الى علاقات إيجابية مع إيران التي ترغب بها وتعمل لها، كما أن الحزب وافق على صيغة ثلاث ثمانات.
هذه «الصناعة اللبنانية» للحكومة، حصلت تحت سقف التوافقات الدولية والإقليمية، وتمّ تذليل ما سمي بالمداورة في الحقائب الوزارية التي حصل «كباش» داخلي حولها، لجهة تشدّد العماد ميشال عون أن تبقى وزارة الطاقة من حصة «التيار الوطني الحر» أو «تكتل الإصلاح والتغيير»، وقد نال ما طلب مع وزارة سيادية هي الخارجية التي أسندت الى جبران باسيل، واعتبر ما حصل عليه هو استعادة لحقوق مسيحيين ومَن يمثّلهم، في الوقت الذي رفضت «القوات اللبنانية» المشاركة في الحكومة إنسجاماً مع ما تعتبره العمل بالمبادئ وهي أنها لن تغطي مشاركة «حزب الله» في القتال بسوريا أو بقاء سلاحه في الداخل اللبناني، وهو ما لم يأخذ به حلفاؤها وفي مقدمهم «تيار المستقبل»، بحيث استفاد «حزب الكتائب» من مقاطعة القوات ليحصل على ثلاث حقائب وزارية، وكذلك فعل مسيحيو «14 آذار»، بحيث يعيد سمير جعجع خطأ ارتكبه عام 1992 بمقاطعة الإنتخابات النيابية، ورفض المشاركة في حكومة رفيق الحريري الأولى، فدفع ثمن انقلابه على الطائف المدعوم أميركياً السجن، وهو في هذه المرحلة لا يقرأ ما يحصل من تطورات في المنطقة والقرار الدولي بدعم تشكيل الحكومة، وهذا ما لا يفعله النائب جنبلاط الذي قرأ التقارب الأميركي– الإيراني، ولم يقبل أن يشارك في حكومة لا يتمثّل فيها «حزب الله».
هكذا وُلدت الحكومة بقرار لبناني داخلي تحت سقف التوافق الدولي–الإقليمي حول الإستقرار في لبنان الذي وضعته الحكومة في أولوياتها وفي البيان الوزاري الذي سيكون امتحاناً لتماسكها لا سيما فيما يخص مقولة الجيش والشعب والمقاومة و بعد إنتهاء استحقاق تشكيل الحكومة، سيدخل لبنان في الإستحقاق الرئاسي الذي ستمهد له هذه الحكومة التي من ضمن مهامها محاربة الإرهاب الذي بدأ الجيش اللبناني يحقق إنجازات في تفكيك شبكاته وتوقيف قادتها وعناصرها، وهو يلقى دعماً دولياً وإقليمياً، والهبة السعودية للجيش بثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش، تقع في هذا الإطار والذي يتزامن مع الأمر الملكي الذي أصدره العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز بمحاربة الإرهاب ورفضه مشاركة أو قتال السعوديين مع المتطرفين، وتجريمهم وفرض عقوبات عليهم، وهو يلتقي في مكان ما مع ما قاله الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله حول دوره في سوريا بقتال التكفيريين مع الموقف السعودي، مما يضع إنسحابه من سوريا وسلاحه خارج التداول في الحكومة.
Leave a Reply