عرفت الساحةُ المسرحيّة العربيّة في المُغتَرَب الأميركي عموماً وفي ميشيغن بخاصّة، العديدَ من الفِرَق التي خاضتْ محاولاتٍ جادّة ورصينة من أجلِ الإسهام في ترسيخ وإبراز المشهد المسرحي العربي في المهجر الأميركي، عبر نشاطاتٍ دؤوبة، متخطِّيَةً صعاباً لايُستهان بمصادرِها المتعدِّدة ذوات الشجون المعيقة أمام التكوين البيئي لأيّ إنتاج ثقافي ومن أبرزهِ حركة المسرح. ومن المعروف أنّ لدوافع الخَلْقِ الفنّي أثراً كبيراً في تحديد مدى الأصالة في النتاجات الفنّيّة، فإذا كانت تلك الدوافع تنطوي على الفهمِ العميق لمسيرة المجتمع الذي يخاطبهُ العمل المسرحي ويستوحي مضامينَه من بيئتِهِ المحتدِمة، كانت نتائجُها ذات أثرٍ راسخ في الذاكرة الفنّيّة الجمعيّة، تارِكَةً ظِلالَها على التأريخِ المستقبَلِيّ إنْ بحثاً أو دراسةً. وعلى العكس من ذلك تماماً، فيما لو كانت تلك الدوافع طارئة متكلَّفة أو سطحِيّة ستنتهي النتائج إلى حالة الخيبة ومن ثمّ الإندثار.
وفرقة أجيال اللبنانيّة التي تمارس النشاط المسرحي في ديترويت، استطاعت أن ترسم لها مساراً خاصّاً بها بحيث اعتُبرت واحدةَ من تلك الفرق التي رسّختْ أقدامَها في المشهد المسرحي المهجري، وقد ساندها في ذلك تبنّيها للمعايير الآنفة الذكر والتي تشترطها العملية الفنّيّة الجادّة، بالإضافة إلى عامل القيادة المكتنزة بالتجارب الفنيّة المسرحيّة والتي وظّفها في إنتاجه المسرحي إبداعيّاً، الفنان ناجي مندلق بحيث أتاحت له فرصة التجواب بفرقته المسرحيّة في مناطق عديدة من العالم. ولقد كانت من أبرز المؤشِّرات التي تميّزت بها تلك الفرقة، تصدّيها للموضوعات المعاصِرة التي تمثّل حدثَ الساعة، لاسيّما بالنسبة للمغترب العربي الذي بات محاطاً بجملة هموم حياتيّة ووجوديّة، يتصدّرُها القلق مابين التشبّث بجذور الإنتماء ضدّ المنظومة الحياتيّة في المغتَرَب التي من شأنها اقتلاع تلك الجذور.
ولأنّ الفِرقةَ قد واصلَتْ نهجَها على الخوض في المواضيع التي تمسّ الضميرَ الجمعي لأبناء الجالية منذ العام 1988 وهو العام الذي شهد ميلاد انبثاق الفرقة، وأمسكتْ على ديمومة المحافظة على النسق العام الذي تتحرك به وفق النهج الذي انتهجتْه، ممّا أبقى على المستوى الراقي والرصين لمجملِ هيكليّة ومضامين العروض، وبذلك قد برزَ اسمُ مؤسّسِها الفنان ناجي مندلق، حيث كان له الدور البليغ الأثر في انتقاء الموضوعات الملبِّية لحاجات ذلك النهج، ومن ثمّ وضع الآليّات الفنيّة المبتكّرة على سبيل الطرح والإخراج، ولاسيّما قد ساعدته جملة عوامل للنهوض بتلك التجارب كإيغالهِ في النهل من ينابيع عالَم التأليف المسرحي بالإضافة إلى اطّلاعه الواسع على التجارب العديدة في الإخراج والتمثيل سواءً على المستوى المحلّي أو العربي والعالمي، الأمر الذي يؤكِّدهُ ارتباط اسمِهِ بمحاولات رصد الحركة المسرحيّة اللبنانيّة خصوصاً والعربيّة على وجه العموم، كما رأيناه في محاولته التوسُّع برقعة التجريب المسرحي من خلال إشراك عناصر فنيّة مرموقة من باقة الفنانين العرب المتواجدين في ميشيغن، الولاية التي يقطنها، على الرغم من ارتطام أعماله بجدران من المعوِّقات التي كان من الممكن أن تحول دون توسيع آفاق التجربة.
والمتتبِّع لتجربته الإخراجيّة لمجمل الأعمال التي قدّمها ومنها «إبتسم أنت في أميركا» و«إبتسم أنت في ديربورن» و«قضيّتُنا قضيّة» و«تلاميذ آخِر زمن» و«حاميها حراميها» و«تأمرَكْنا ياسيدي» و«فالح تفرج تعال شوف» و«أمّ حسين» يصل إلى حصيلة من المسلَّمات، كاعتمادِه على النهج الواقعي الرمزي في طرح الأفكار والمعالَجات الفنيّة التي يتطلّبها التكنيك المسحرحي. بيد أنّ الأسلوب الواقعي لدى المخرج (مندلق) تتباين استخداماتُهُ وتوظيفاتُهُ من نصٍّ لآخر ممّا أتاح له التحكُّم بمرونة، الإستجابة بفاعليّة لمتطلّبات النصّ الرصين ما يمكن أن نعدهُ انعكاساً واعياً لتفاصيل المضمون وانسجامها الإنسيابي مع النص وبقية المتطلَّبات المكمِّلة للعمل المسرحي من ديكور وإضاءة والإتتقاء الموسيقي وسائر المراحل التكنيكية المصاحِبة له والتي يتم توظيفُها في خدمة النص على أنّ إعداد الممثِّل يبقى سيِّدَ الموقف.
إنّ كل تلك العوامل أتاحت لنا الرؤية التي تؤكِّد الإستجابة المدروسة لمستلزَمات واقعِنا الراهن في الإرتفاع بمستوى الذائقة لجمهور الجالية. وعلى الرغم من تقديم الفرقة لأعمالِها باللهجة المحلّيّة اللبنانيّة، إلّا أنّ لغة الحوار قد حافظّتْ على طاقتِها التعبيريّة بمجمل الأعمال التي قدّمتها في رِحلة تقصّي مستمرّة عمّا يهمّ الفرد العربي المغترِب، لاسيّما الخوض في الموضوعات الساخنة التي طرأتْ على واقعهِ الإغترابيّ الجديد.
Leave a Reply