في الوقت الذي تقف فيه مدينة ديترويت على مفترق طرق بين إعلان إفلاسها المالي وإنتخاب رئيس بلدية جديد يبشر بنهضة جديدة للمدينة، يطوي القس الداعية لحقوق الإنسان في أميركا وندل أنتوني عامه الـ21 كقائد لأكبر فرع محلي لمنظمة «المؤسسة الوطنية لتطور الملونين» (أن دَبل أي سي بي).
وتجابه المنظمة الحقوقية السوداء عدة تحديات في المدينة التي شهدت نزيفاً سكانياً متواصلاً خلال العقود الماضية لكنها تظل المدينة عريناً للأميركيين السود الذين يشكلون أكثر من 80 بالمئة من سكان ديترويت حسب الإحصاء الوطني. ومنذ إنطلاقته عام 1912 برهن فرع «منظمة الملونين» في ديترويت عن أهميته للمجتمع الإفريقي الأميركي في المدينة بعدما ربحت المنظمة العديد من القضايا القانونية ضد التمييز، كما أقامت المنظمة العديد من التظاهرات الشعبية الحاشدة.
أنتوني خلال الحوار مع«صدى الوطن». (عدسة عماد محمد) |
وفي عام 1956 أقامت المنظمة عشاءها الأول لجمع التبرعات لصندوق «النضال من أجل الحرية»، وهو ما تحول الى تقليد سنوي باتت معه المنظمة تشرف على أكبر حفل عشاء سنوي في أميركا. ومنذ تسلمه مقاليد قيادة فرع «منظمة الملونين» في ديترويت عام 1993، قام القس ويندل أنتوني بقيادة وتنظيم مسيرة شارك فيها أكثر من 250 ألف شخص بمناسبة الذكرى السنوية الـ30 لمسيرة داعية الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كينغ.
وسرعان ماتحولت المسيرة إلى أكبر حركة مطالبة بحقوق الإنسان منذ 1963 ومنذ ذلك الحين تمكن فرع ديترويت من جمع تبرعات بمئات آلاف الدولارات لمساعدة المحتاجين من السكان وأيضاً اللاجئين في رواندا وزائير.
عام 1986 أصبح أنتوني راعياً لكنيسة «فيلوشيب» التي انتقلت عام 2005 الى مقرها الجديد على شارع أوتر درايف في ديترويت حيث أقيمت على مساحة مئة ألف قدم مربع.
ولد أنتوني في مدينة سانت لويس (ميسوري) وانتقل إلى ديترويت كمراهق ودرس في مدارسها العامة ثم تخرج من جامعة «وين ستايت» بدرجة بكالوريوس في العلوم السياسية. حاز على ماجيستير في الدراسات اللاهوتية من جامعة «ماري غروف» الكاثوليكية.
«صدى الوطن» زارت القس أنتوني في مكتب كنيسته بديترويت وأجرت معه الحوار التالي حول مجمل القضايا:
– بعد 105 سنوات من تأسيس منظمة الحقوق المدنية للملونين، وبعد إنتخاب أول رئيس أسود فـي أميركا، كيف تصف حالة المجتمع الافريقي الأميركي على المستوىين المحلي والوطني؟
– إنه شعور مختلط، بالطبع مسرورون ومتشرفون جداً بانتخاب أول رئيس أسود. فأنا لم أحلم بأني سأرى هذا اليوم في حياتي. إنه بركة من الله وأيضاً عبء.
هي بركة، لأن رجلاً خارق الذكاء أتى إلى البيت الأبيض في مرحلة دقيقة وحساسة من تاريخ أمتنا. فبلدنا كان على شفير الإنهيار المالي.. وكنا مشغولين بحربين.. جاء أوباما إلى الحكم بيدين مليئتين.. وبوعود كثيرة. خصومه قالوا بلسانهم إن من واجبهم أن يتأكدوا من أنه لن يتم انتخابه لولاية ثانية، وقالوا إنه سيفشل في تحقيق أي من وعوده. إلا أنه تمكن من تمرير مشروع الرعاية الصحية، كما رفع مؤخراً الحد الأدنى للأجور للموظفين الفدراليين.. وأعلى شأن الفرص التربوية والمنح الدراسية، وقام بعمل باهر رغم محاربة خصومه له.. وهذه هي البركة.
أما الحمل الثقيل (عبء كونه أول رئيس أسود) فجعله غير قادر على التركيز على مشاكل مجتمع السود والإستجابة لحاجاته بالطريقة التي أرادها الناس… فهو ليس رئيس الأفارقة الأميركيين، بل رئيس الجميع..
والمشكلة أنه لو فعل المزيد لمجتمعنا لكان اتهمه خصومه بمحاباة السود وبأنه رئيس لفئة معينة لا رئيساً لكل الأميركيين. وضعه كالعالق بين المطرقة والسندان. إنه عبء لنا كونه غير قادر على التحدث بصفة خاصة عن شؤوننا وشجوننا حتى ولو كانت أحوالنا تتطلب تدخلاً رئاسياً… أنا أتحدث عن أمور مثل البطالة، والتعليم وعن سياساتنا في افريقيا. أنا أعتقد انه قام بجهد كبير لمعالجة العديد من القضايا.. لذلك عندما أقارن باراك أوباما بكل المتواجدين في حقل السياسة هناك (في واشنطن) فإني سأعيد التصويت له مرة ومرتين وثلاث.. كما أعتقد أن الناس الذين لديهم عقل سوي يفعلون نفس الشيء أيضاً.
– بعد مرور ولاية ونصف على رئاسة أوباما، هل مازال مجتمع الأفارقة الأميركيين فخوراً به.. ومايمكن له أن يفعل أكثر لكي يصل إلى قلوب الناس فـي ديترويت؟
– أعتقد أنهم مازالوا فخورين به ومعظم الناس مازالوا مرتاحين له لأنهم يدركون جيداً أنه تحمل الكثير من النقد الشخصي والكثير من التهديدات لحياته.. أكثر من أي رئيس آخر.. كما أن العوائق التي وضعت في وجهه لم توضع في وجه أي رئيس آخر. أتمنى لو كان لدينا برنامج عمل وطني. لدى أوباما أجندة وطنية لخلق الوظائف لكنه غير قادر على إقرارها بسبب هذا الكونغرس. أتمنى لو كان بإمكانه أن يفعل أكثر على صعيد إصلاح البنية التحتية لأن ذلك يعني خلق العديد من الوظائف.
– هناك وجهة نظر أن الرئيس بيل كلينتون فعل لديترويت أكثر مما فعله باراك أوباما. هل هذا صحيح؟
– الأوقات الإقتصادية في عهد كلينتون كانت مختلفة تماماً. حينها لم نواجه عجزاً في الموازنة مثل الآن. كما أن الجمهوريين تعاونوا أكثر مع كلينتون، ولم تكن لديهم مشكلة العرق، وهذه القضية موجودة وبشكل واضح تماماً. بل أن كلينتون واجه أوقاتاً سهلة مقارنة مع أوباما الذي واجه المتاعب منذ اليوم الأول من عهده.. ورغم ذلك نجح في إقرار نظام الرعاية الصحية.. أما كلينتون فقد فشل في ذلك.
إن إنجاز اوباما سيعيش من بعده لهذا السبب يحاربونه لأنهم يريدون تشويه إرثه.
– برامج التجسس.. قائمة «الممنوعين من السفر».. الإغلاق التعسفي للحسابات المصرفية، وغيرها من الأمور جعلت البعض يقولون إن الحقوق المدنية بلغت الحضيض خلال رئاسة أوباما؟
– الحقوق تعرضت للانتكاس بسبب وجود أناس لايؤمنون بحقوق الإنسان. بعض الناس يظنون أننا نعيش في مجتمع مابعد العنصرية لسبب بسيط هو وجود أوباما في البيت الأبيض.. أنظر إلى ما حصل في فلوريدا بسبب قانون «إحفظ أرضك» (مقتل ترايفون مارتن).. وماذا حصل في ديربورن هايتس (مقتل رانيشا ماكبرايد). أنظر إلى حقيقة أن ميشيغن فرض فيها قانون «حق العمل» وقانون مدراء الطوارئ المالية الذي يتنافى مع الديمقراطية ويصادر حقوقنا الإنتخابية. أنا لم انتخب مديراً مالياً للطوارئ. أنا إقترعت لرئيس بلدية ومجلس بلدي في ديترويت. نعم إن الحقوق المدنية تعرضت لضربة لأنه منذ إنتخاب أوباما، بدأت قوى الإقصاء والإلغاء حربها على الرئيس لإعاقته، وقد بدأت هذه القوى الاستيلاء على الولايات بعد فشلها في دخول البيت الأبيض.
بعض الولايات تحاول خنق المنظمات الحقوقية المدنية وأنا أعرف أنكم في الجالية العربية قلقون من ممارسات المصارف.. فهي لم تعد تعطي قروضاً نحتاج إليها.. أما الإدارة الأميركية فوفرت قروضاً وهبات لمنع إنهيار البنوك فأخذوا الأموال وناموا عليها ولا يريدون ضخ المال في أوصال الإقتصاد من جديد… مع أن هناك آلية تفرض على البنوك إقراض المال لأصحاب الشركات الصغيرة والأفراد لكن هذا لم يتم تنفيذه.
– ماهي الرسالة التي تكونت من التأييد الإنتخابي العارم لرئيس بلدية أبيض فـي ديترويت العام الماضي؟
– هناك جملة من الأسباب برأيي لكن أختصرها بسببين رئيسيين: المال والإعلام. وسائل الإعلام كان لديها مرشحها الذي دعمته بلا حدود من اليوم الأول ورجال المال وأصحاب الشركات عادة ينقسمون بين المرشحين لكنهم في هذه الإنتخابات أعطوا مالهم لمرشح واحد فقط. كذلك كان هناك «عامل كوامي كيلباتريك» ومجتمعنا تضعضعت معنوياته، حيث ظل الناس يسمعون على مدى سنتين إلى ثلاث عن سوء كوامي كيلباتريك والقيادة الافريقية الأميركية للمدينة، إلى درجة أنهم جعلوا مجتمع السود يكره نفسه.
والسود في ديترويت كسائر الشعوب يرغبون بالتغيير، لقد اجبروا على الشعور بأن الطريق الوحيدة لإحداث التغيير تأتي عبر إنتخاب نوع معين من رؤوساء البلدية، وشعبنا سيق إلى هذه القناعة، إلا أن هذا لا يعني أن رئيس البلدية الجديد لن يقوم بعمل جيد، لكنه يعني ببساطة انه كانت توجد «خطة عمل إستراتيجية» والكثير من الناس كانوا متورطين فيها، من ضمنها الاعلام من أجل التأكد من فوز مايك داغن.
– يبدو أن هناك تبايناً فـي ديترويت بين منطقة وسط المدينة وباقي الأحياء، فما هي توقعاتك للمستقبل؟
– لا يمكن أن تكون هناك مدينتان في ديترويت.. هناك ديترويت واحدة بمركز وأحياء. لدينا أحياء جميلة هنا لكن الحي الذي أسكنه لا تراه في التلفزيون بل ماتراه على الشاشة فقط كل ما يؤذي القلب ويبعث على الهلاك.. لا مشكلة لدينا بإنتقال آخرين إلى المدينة، أريد أن يأتي الناس ويشتروا أراضي ويطوروا الأحياء، لكني أريد أيضاً أن أكون جزءاً من كل ذلك. لدي مصلحة في ديترويت. لقد بنينا هذه الكنيسة على أرض كانت تنتشر عليها البيوت المهجورة. نحن شيدناها ولم نحصل على هبة من البلدية. الناس هنا جمعوا المال وحصلوا على قرض من المصرف.. عندما تطالع الأخبار لا ترى قصصاً عن كنائس بنيت على أنقاض بيوت مهجورة وتقوم بتوظيف الناس وتبعث الإستقرار في المجتمع. ولو لم نكن موجودين هنا لكان هذا المكان جحيماً.. إن الأمل الوحيد لديترويت هو أن تكون مدينة واحدة يتشارك الجميع في تطويرها وهذا هو التحدي الذي يواجه رئيس البلدية الجديد الذي يقول إنه مستعد لمجابهته.
– فـي السنوات الأخيرة اعتبرت ديترويت من أخطر المدن الأميركية من حيث معدلات الجريمة التي إرتفعت كما البطالة والفقر.. ماذا يمكن فعله لتغيير هذه الظروف الصعبة؟
– نعم.. هناك مشاكل في ديترويت. نعم هناك حوادث قتل لكن حوادث القتل في كل مكان.. لا يمكننا أن نحصر أنفسنا بذلك، ما يجب عمله هو التثقيف والتوعية والتدريب. نحن بحاجة إلى فرص عمل.. فمثلاً الحاكم سنايدر يحب التحدث عن «ميشيغن النقية» لكن ميشيغن ليست نقية إنها ملوثة. أين الوظائف في المدينة؟ أين برامج التدريب المهني؟ ماذا قدم من إنجازات؟ ونحن نقول له: إذا أردت تحسين الأحوال، إذن تعاون مع الكنائس والمنظمات الخيرية كلها التي تحاول إزاحة الحرمان وتحسين نوعية الحياة للناس.
يريدون إقتطاع إعانات البطالة من 26 أسبوعاً إلى 20.. لكن ماذا يفعل العاطلون عن العمل من دون المعونة المادية؟ يجب أن تكون الجهود متناسقة يمكننا أن نضع الناس في برامج عمل.. والحاكم يملك المصادر والأموال لذلك. الولاية لديها 1.3 مليار فائضاً في الموازنة العامة ولا تعرف ماذا تفعل بها. ماذا عن كل الطرقات المحفرة التي بحاجة إلى استصلاح؟ دربوا شعبنا واطلقوهم للعمل.
ليس كل منزل بحاجة إلى الهدم فبعضها يمكن إصلاحه وبعضها يمكن إعادة ترميمه وهذه فرصة للتدريب والتوظيف.. فهناك أصحاب المهن كالدهان والسبّاك والبنّاء. لسنا بحاجة إلى هدم كل شيء.
– ماشعورك حول إفلاس ديترويت وإستيلاء الولاية على البلدية؟ كيف ترى تأثير الوضع الحالي على المجتمع هنا؟
– نحن في المنظمة رفعنا دعوى ضد استيلاء حكومة الولاية على البلدية، لأن ذلك يشكل خرقاً لحقوقنا الدستورية وحقوقنا الإنتخابية، ورفعنا الشكوى هذه بالنيابة عن كل الولاية. وقد لاحظنا أن فقط في المجتمعات التي يتواجد فيها السود بكثافة تم تعيين مدير طوارئ لتسيير شؤون المدن، مثل فلنت وبونتياك وديترويت وهايلاند بارك. تروي ووست بلومفيلد لديهما مشاكل لكن لم يعيّن لهما مدير طوارئ. إن قانون الطوارئ المالية يمس بحقوق الناخبين لأنه يصادر صلاحيات السلطات المنتخبة ويحصرها بيد شخص واحد يتم تعيينه من حكومة الولاية ويملك قرار التحكم بكل شيء. في ديترويت مثلاً، عندما يغادرنا كفين أور فماذا سيحل بالعلاقة بين رئيس البلدية والمجلس البلدي؟ للأسف هناك إهتمام أكبر بالفنون والمتحف، أكثر من الناس ومنازلهم. إنهم مهتمون بلوحات بيكاسو أكثر من الناس.
حكومة الولاية والحاكم مقصران تجاه ديترويت. نحن نقوم بالتضحيات وهم يجنون الفوائد.
– كيف تصف العلاقة بين السود والعرب فـي منطقة ديترويت؟ المجتمعان تعايشا جنباً إلى جنب لعقود عديدة؟ ماذا برأيك يمكن فعله لبناء جسور أكثر فـي المستقبل؟
– أعتقد أن الأمور تحسنت عبر السنوات. مازال لدينا بعض التحديات ونحن نعرف ماهي. أعتقد أن معظمها ينبع من حقيقة أننا لا نجد رجال أعمال سود يديرون متاجر أو محطات وقود في المدينة لذا نجد هذا التحدي ماثلاً. لكن الأمور تحسنت وأنا دوماً أشجع الناس لمعاملة بعضهم كما يحبوا أن يعاملهم الغير، ونحن في المنظمة حاولنا أن نبقى على علاقة إحترام وإستفادة متبادلة مع الجالية العربية. أعتقد أن بعض الناس في مجتمعنا يكونون غير عقلانيين بعض الأحيان وعندما تقع المشاكل تكون بحاجة إلى طرف ثالث لكي يتقدم ويعيد الجميع الى الصواب، وهذا الشخص الثالث هو نحن.
التحديات ستكون دائماً موجودة لكن بشكل عام الوضع أفضل ولم أسمع مؤخراً عن وجود أزمات. لقد اعتدنا سابقاً سماع العديد من الشكاوى لكن لا أسمع بها مثل السابق ولا أعرف ما إذا كانت الأمور تحسنت أم أن الناس سئموا من ترديد نفس الشيء. لكني أرغب في أن أفكر بأن العلاقات بين مجتمعينا تنحو نحو الأفضل. أنتم لن تذهبوا إلى مكان آخر ونحن كذلك، لذا فالأفضل أن نتحد ونحاول تسيير أمورنا.
Leave a Reply