لم ينهِ القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 14 آب 2006، الحرب الإسرائيلية على لبنان، بل أوقف العمليات العسكرية التي شنّها العدو الإسرائيلي في 12 تموز من ذلك العام ودامت 33 يوماً، لم يحقق فيها أهدافه بضرب وتدمير ترسانة المقاومة الصاروخية وسلاحها النوعي وتكبيدها هزيمة رداً على اندحاره في لبنان وإخراج قواته المحتلة بقوة المقاومة وعملياتها التي غيّرت في معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي، أن بالقوة والإرادة تسترد الأرض دون قيد أو شرط.
جنود إسرائيليون في لواء جولاني يتناولون الطعام بعد يوم تدريبي في مرتفعات الجولان المحتل قرب الحدود اللبنانية. (أ ب) |
ولبنان الذي أقام هدنة مع الكيان الصهيوني المغتصب في العام 1949، لم تمنع جيشه من خرق الحدود والإعتداء على السيادة اللبنانية وقصف المدن والقرى والقيام بعمليات اغتيال وسرقة مياهه، ومنعه من إقامة القوة العسكرية بوجهه، عبر تحديد عديد الجيش وسلاحه الذي عليه أن يتواجد في الجنوب، وساعدته في ذلك قوى سياسية وحزبية من داخل السلطة اللبنانية وخارجها، أن رفعت شعار “قوة لبنان في ضعفه”، وقررت اعتماد الطرق الدبلوماسية لردع العدوان، وهي لم تجلب للجنوب وأهله سوى الدمار والخراب والتشريد، حيث استمرت “إسرائيل” بإعتداءاتها مع صدور القرار 425 في العام 1978 الذي فرض عليها الإنسحاب من الشريط الحدودي المحتل، فلم تفعل بل تواصل إحتلالها المقنّع عبر عناصر عميلة لها بقيادة الرائد المنشق عن الجيش اللبناني سعد حداد الذي أسّس ميليشيا له ارتبطت بالعدو الإسرائيلي وطبعت العلاقات معه عبر ما يسمى «الجدار الطيب»، وهو ما كان يريده لفرض «إتفاق سلام» مع لبنان، لم ينجح في تحقيقه حتى مع غزوه له في العام 1982 وتنصيب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية ثمّ شقيقه أمين بعد اغتياله، إذ انتفض الشعب اللبناني المحتضن للمقاومة التي بدأت مع بدء الإجتياح الإسرائيلي وتصاعدت إثر احتلال بيروت، وأسقط معها إتفاق 17 أيار وانتهت إفرازات العدو الإسرائيلي الذي بدأ يندحر من المناطق اللبنانية الواحدة تلو الأخرى ومَن ارتبط به وتعاون معه مثل «القوات اللبنانية»، الى أن كان التحرير في 25 أيار عام 2000.
فللعدو الإسرائيلي ثأر مع لبنان الذي كان يستضعفه، واعتبر اجتياحه له نزهة قد تكون بالدراجات تقودها مجندات في جيشه، فإذا بهذا الكيان الذي استخف أيضاً بعض من أبنائه بقوته أنه ليس باستطاعته مقاومة العدو ورفع هؤلاء شعار «العين لا تقاوم المخرز»، الى أن أثبتت المقاومة قدرتها التي أذهلت العالم بالعمليات النوعية التي نفّذتها فارغمت قوات الإحتلال على أن تمارس أول هروب لها من العاصمة بيروت بعد عملية مطعم «الويمبي» الشهيرة في شارع الحمراء بمنطقة رأس بيروت التي نفّذها المقاوم خالد علوان، وما تبعها من عمليات دفعت بالجيش الإسرائيلي الى أن يذيع بمكبرات الصوت «لا تطلقوا النار علينا إننا راحلون»، في وقت كان بعض سكان العاصمة يخرج لرمي السلاح في مكبات النفايات، فجاءت المقاومة وبعد أيام قليلة على دخول قوات الاحتلال لترفع من المعنويات وتغيّر مجرى التاريخ، إذ بدا الإحتلال بالانسحاب تدريجيا بعد أقل من ثلاثة أشهر لغزوه، بعد أن وقفت بوجهه المقاومة الوطنية اللبنانية، ومعها بدأ تحقيق الإنتصارات في بلد منقسم على نفسه، وجزء من مواطنيه متعاون مع العدو الإسرائيلي، الذي أجّج الإقتتال الداخلي بإفتعاله حرب الجبل، وترك عملائه يرتكبون المجازر فيه وفي مخيمي صبرا وشاتيلا للنازحين الفلسطينيين، واختطاف مئات المواطنين على حواجز «القوات اللبنانية» الذين مازال مصيرهم مجهولاً.
فالمقاومة في لبنان، شكّلت أزمة للكيان الصهيوني الذي مازال يتحيّن الوقت للإنقضاض عليها، فلم يسكت قادته على هزائمه في لبنان الذين هالهم، أن تسقط هيبة الجيش الذي لا يقهر، والمصنف الرابع في العالم على يد المقاومة، فقرّر الرد في العام 2006، وأصيب بهزيمة أكبر كانت مدوّية هذه المرة، إذ أن المعركة تحولت داخل الكيان الصهيوني الذي أمطرته المقاومة بآلاف الصواريخ حتى لحظة وقف إطلاق النار، وسقطت على المستوطنات التي لجأ سكانها الى الملاجئ وللمرة الأولى منذ الحروب العربية-الإسرائيلية، كما وصلت الصواريخ الى عمق الدولة العبرية وعاصمتها تل أبيب، وكانت المقاومة كلما اشتدّ القصف على مدن وبلدات لبنانية أو مرافق حيوية وبنى تحتية، ترفع من حدة قصفها وتوسعه من حيفا والى ما بعد حيفا، إضافة الى ما تكبّدته قوات الإحتلال في أثناء محاولتها التقدم براً، فجوبهت بمقاومة تملك قاذفات من نوع «كورنيت» الروسية الصنع، فأنزلت بدبابات «الميركافا» الإسرائيلية الصنع من الجيل الرابع، ضربة عسكرية ومعنوية عالية في سهل الخيام ووادي الحجير ومارون الراس وعيتا الشعب وبنت جبيل ومرجعيون، ولم تنفع محاولاته دفع المزيد من ألويته لتحقيق تقدم على الأرض إذ بلغ عديد جنوده حوالي 33 ألفاً، وبقيت عند تخوم البلدات والقرى الحدودية، بعد أن كان الطيران الحربي الإسرائيلي استنفذ «بنك أهدافه» بعد 72 ساعة على بدء العدوان ليتبيّن لرئيس حكومة العدو إيهود أولمرت أن ما أبلغه إياه رئيس الأركان وكبار الضباط، عن أن الصواريخ التي كان العدو يقدرها بحوالي 12 ألفاً ستدمر خلال الأيام الثلاثة الأولى، وتنعم المستوطنات الشمالية بالهدوء، ولا حاجة لغزو لبنان من جديد، لكن الخطة العسكرية أصيبت بنكسة، وظهرت ثغرات كثيرة أثناء العملية الحربية كشف عنها تقرير لجنة التحقيق العسكرية «فينوغراد»، ومن أهم ما ورد فيه ضعف «الجبهة الداخلية» إذ بدأ المستوطنون يفرون ونزح منهم حوالي مليون من شمال فلسطين المحتلة، وهذا ما لم يعتادوا عليه أو يعرفوه في كل حروبهم، إذ الفلسطينيون هم الذين نزحوا ثمّ اللبنانيون والسوريون، وهو ما أفقد الإسرائيليين ثقتهم بجيشهم.
وإسرائيل التي لم تتمكّن من تدمير منصات الصواريخ ومخازن الاسلحة وقدرات المقاومة العسكرية في العام 2006، بدأ يقلقها أن يصل عدد الصواريخ الى مئة ألف، وهو تضاعف حوالي تسع مرات حسب التقارير الإسرائيلية، وأن ما زاد من الخوف لدى قادة العدو، ومع بدء الأزمة السورية أن يقوم النظام الذي كان يتوقع له البعض أن يسقط سريعاً بنقل السلاح الصاروخي النوعي من نوع «سكود» أو «أس 300»، أو «الفاتح» الى «حزب الله» في لبنان، وهو ما سيغيّر في المعادلة العسكرية التي باتت تميل الى صالح المقاومة، لاسيما وبعد أن أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، أنه إذا فُرضت المعركة على المقاومة، فإن الرد سيكون مغايراً عن ما سبقه، وستكون المستوطنات البعيدة في النقب تحت مرمى الصواريخ، كما أن المنشآت النووية والكيميائية والبتروكيميائية والمطارات العسكرية والمدنية والثكنات ومصانع الأسلحة وغيرها من البنى العسكرية والتحتية تحت مرمى نيران المقاومة، والى احتمال أن تكون المعركة في أرض العدو داخل المستوطنات لاسيما في الجليل.
فترسانة الأسلحة النوعية بحوزة «حزب الله» هي ما أقلقت القيادة الإسرائيلية ودفعتها الى ضرب موقع المقاومة في جنتا بجرود بعلبك عند الحدود اللبنانية-السورية، وفق ما أعلن قادة إسرائيل وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بعد تكتم والذي ربط الغارة الإسرائيلية بأمن إسرائيل التي حاولت جس نبض ورد فعل المقاومة على العدوان، التي تمهلت في الساعات الأولى لحصوله قبل إعلان موقف، للتدقيق في المكان المستهدف داخل سوريا أو في الأراضي اللبنانية، لاسيما وأنها حصلت خلال الليل، حيث لم يتأخر الوقت ليصدر «حزب الله» بياناً يعلن فيه حصول الغارة على أحد مواقعه الحدودية، دون أن تسقط له إصابات بشرية، بل أضرار مادية، وقد فهم الحزب الرسالة، وأعلن أنه سيرد في الزمان والمكان المناسبين، وهو ما كان يعلنه دائماً عند تعرّض أحد قادته أو مسؤوليه لإغتيال، أو أي موقع له لعدوان، وهذا ما حصل منذ اغتيال الأمين العام للحزب السيد عباس الموسوي في العام 1992 وبعد إغتيال علي صالح وغالب عوالي وعماد مغنية وأخيراً اللقيس، وكان العدو الإسرائيلي يأخذ بيانات الحزب على محمل الجد، ويتّخذ إجراءات أمنية احترازية لحماية بعثاته الدبلوماسية وجالياته اليهودية وتنقل قادته السياسيين والعسكريين، وكانت كل العمليات التي تستهدف مصالح إسرائيلية في دول العالم، توجه أصابع الإتهام الصهيونية الى «حزب الله»، منذ أول تفجير للسفارة الإسرائيلية في الأرجنتين عام 1994، وما تلاه من عمليات حصلت في الهند وماليزيا وداغستان وجورجيا وبلغاريا… حيث كانت المقاومة وبحسب قادة العدو تختار الدول الضعيفة أمنياً والتي لها فيها حضور صديق، ويمكنها التحرك فيها بسهولة.
وما صدر من موقف حول الغارة الإسرائيلية وعن الرد المناسب عليها من «حزب الله»، حرّك الكيان الصهيوني الذي تخوّف من ما قد تلجأ إليه المقاومة التي دفعت قادة العدو الى الطلب من المستوطنين أخذ الحيطة والحذر والنزول الى الملاجئ، وقد أدّى سقوط صاروخين في جبل الشيخ بعد أيام قليلة على العدوان، وإتهام «حزب الله» بأنه وراءها مما رفع من الجهوزية العسكرية الاسرائيلية ووتيرة احتمال وقوع صدام وحرب جديدة، تحاول إسرائيل معرفة ما إذا كان الحزب سينجر إليها، وهو المنشغل بالمعارك في سوريا التي يحشد لها آلاف المقاتلين وتستنزفه، وقد لا يكون قادراً على الرد، وهو ما لا يزعج إسرائيل أبداً بغوص الحزب في المستنقع السوري، إضافة الى أن مشاركته في القتال الى جانب النظام السوري، بدأت تهز الساحة اللبنانية من تحته، عبر نقل القوى التكفيرية المعركة الى بيئته الشعبية عبر السيارات المفخخة، وهذا لن يمكنه من التوجه نحو المواجهة مع الكيان الصهيوني، الذي يرى قادته أن الوقت مناسب لإستفزاز «حزب الله» الى معركة لا يريدها لأن جبهته الداخلية في لبنان متصدعة، لجهة الخلاف القائم حول سلاحه ودور مقاومته والذي برز في صياغة البيان الوزاري، وهو لا غطاءً سياسياً له لبنانياً، ولا حاضناً شعبياً كما في السنوات السابقة، إضافة الى الحرب الدائرة في عمقه الاستراتيجي في سوريا التي شكّلت في العام 2006 ملاذاً آمناً للمواطنين النازحين من الجنوب والبقاع، إذ يدخل العدوان الإسرائيلي أيضاً في مرحلة بدء الحسم العسكري في أكثر من منطقة في سوريا، لاسيما في عاصمة جبال القلمون يبرود التي إذا سيطر عليها النظام السوري و«حزب الله»، فإنه بذلك يكون أقفل الحدود أمام السيارات المفخخة التي تضرب مناطقه، وتمنع تسلل المسلحين والسلاح من لبنان وإليه، إذ أن هذه الجبهة ضروريا حسم المعركة فيها لصالح «حزب الله» الذي يخشى أن ينقطع شريان التواصل بينه وبين النظام السوري الذي شكّل له العمق الاستراتيجي لبناء قوته العسكرية وممراً للسلاح الذي تريده إسرائيل أن يتوقّف، وهي تدخلت بطيرانها لمنع سقوط الحدود اللبنانية-السورية مع النظام السوري وهي بيد المعارضة السورية، التي تمنع تدفق السلاح الى «حزب الله» الذي تعتبر مشاركته في القتال الى جانب النظام السوري ضرورة لحماية المقاومة وسلاحها، لأن رأسه مطلوب بسبب التحالف القائم بين الطرفين، والأزمة في سوريا تتعدّى موضوع الإصلاح وغيره من الشعارات، الى مسألة فك ارتباطه بالمقاومة وإيران وقد سبق بدء الأحداث في سوريا بسنوات أن طالبت أميركا النظام السوري أن يوقف دعمه للمقاومة في لبنان وفلسطين ويفك تعاونه مع إيران، وساندتها قوى عربية وأخرى لبنانية دعت الى نشر قوات دولية عند الحدود اللبنانية-السورية، وتوسيع صلاحيات القرار 1701 ولو تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والعنوان سلاح المقاومة.
Leave a Reply