في صف اللغة الإنكليزية، طلبت منا المعلمة، نحن القادمين من بلاد عديدة ونتحدث بلغات شتى، كتابة موضوع عن أصعب عمل مارسته في حياتك. وصاحب العمل الأصعب سيحصل على جائزة..
وجدت الفرصة مناسبة للكتابة عن تجربة كانت أشبه بالأشغال الشاقة بالنسبة لي، مهمة تتطلب جهداً إستثنائياً وإهتماماً متواصلاً على مدار الفصول الأربعة، ومرارة ومعاناة كل سنة، وكل ذلك كان مقابل مردود مادي ضئيل: إنها زراعة الدخان.
منذ نعومة أظفاري، أدركت معنى الكدح والشقاء الذي يعرفه جيداً آلاف المزراعين في قرى جنوب لبنان لاسيما مزارعو التبغ، وهي أصعب الزراعات وأشقاها، موسماً بعد موسم وسنة بعد سنة. من بين هؤلاء كنت أرى أبي يلهث ويغرق بالوحل في أيام البرد القارسة، مثل هذا البرد الديربورني الفظيع.
تبدأ المعاناة في الشتاء البارد عبر زراعة المشاتل، لتمتد حتى الربيع. عندها، نبدأ بنقل شتلات التبغ، واحدة فواحدة، وزرعها في الحقل بعد حراثته وتسميده لمرات عدة، ثم تبدأ مرحلة القطاف خلال أشهر الصيف. والقطاف يتطلب النهوض باكراً والذهاب للحقل لقطف الأوراق -ورقة ورقة- ثم العودة إلى البيت وشكّ أوراق التبغ بالإبرة والخيط ونشرها تحت الشمس على منشر خاص بانتظار أن تجف. وفي الخريف والشتاء يتم تصفيط التبغ وتوضيبه في «الدنك» وهو عبارة عن صندوق خشبي خاص.
في يوم تقديم الموضوع أمام طلاب الصف، طلبت المعلمة من كل طالب التحدث بإيجاز عن عمله الأصعب، ومن ثم يتم التصويت على أصعب عمل لينال صاحبه الجائزة.
عندما صار دوري للكلام ومن باب الإحتياط أخذت معي علبة محارم، إعتقاداً مني أن زملائي الطلاب والمعلمة أيضاً سوف يبكون عند سماعي وأنا أتحدث عن أصعب عمل قمت به ولسنوات طويلة جداً.
وصفت لهم كيف كنت أدرس مساءاً، وأعمل نهاراً مع أبي في الحراثة والغرس وحمل روث الحيوانات لإخصاب الأرض. وكيف كنت أركع في حقول التبغ والوحل يغمر رجليّ ولا شيء يحميني من الشمس الحارقة خلال زراعته وقطافه حيث كان ينتشر على أنحاء جسدي سائل دبق ولزج، وعندما يدخل عيني ويقع على شفتي يقرفني طعمه الحاد المرارة، وعندما كنت أحاول غسل يدي، بعد العمل لساعات طويلة، لا أستطيع التخلص من دبقه الأسود إلا بعد عناءٍ طويل.
كانت الشمس تلسع ظهري المقوس، وكان لهيبها خلال زراعة شتلات التبغ يهب في وجهي ومنخاري طوال ساعات العمل الطويلة. أحياناً كانت تختفي نسمة الهواء، فيسيل العرق جداولاً على جسدي، وأشعر كأن النمل يزحف عليه. العرق كان يبكي عينيّ أيضاً. لطالما بكيت بحرقة من التعب وتساءلت لماذا في هذا العالم أناس يجهلون معنى الكدح وآخرون مثلي يكدحون منذ نعومة أظفارهم، موسماً بعد أخر؟.
وتابعتُ أنه في الشتاء، كان البرد ينخر عظامي خلال «تصفيط» أوراق التبغ والجلوس لساعات طويلة في مكان لا تدفئة ولا تهوية فيه.
بعد الإستماع لجميع الطلاب، تبين لي أن كلاً منا يعتقد أن عمله هو أسوأ وأشقى عمل في العالم. «وياماحلى زراعة التبغ أمام بعض الأعمال الأخرى».
أسوأ عمل، وهو الذي نال أغلب الأصوات، كان لرجل عمل في مطلع شبابه في مسلخ لإفراغ أحشاء وأمعاء الحيوانات وتنظيفها.
لا أحب تقديم النصائح وأكون معلمة للآخرين، لقد علمني العمل الشاق في حقول التبغ الإرتفاع فوق المصاعب وعدم التذمر من الحر ومن البرد.. وما أكثر النقاقين هذه الأيام..
Leave a Reply