هناك العديد من أبناء الجالية العربية في منطقة ديترويت هاجروا الى الولايات المتحدة بعد أن عانوا من ويلات الحروب والإضطهاد الجسدي والنفسي في بلدانهم، ولا شك أن الكثيرين من هؤلاء لا زالت كوابيس الماضي تلاحقهم حيث يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية لم يتسن لهم علاجها من قبل. هذا بالضبط ما دفع «المجلس العربي الأميركي والكلداني» (أي سي سي) الى برنامجه الخاص لتقديم خدمات شاملة في الطب النفسي والسلوكي لمعالجة ضحايا الحروب والتعذيب، عبر خمس من عيادات المجلس المنتشرة في مقاطعات وين وماكومب وأوكلاند.
«إنها قصة الشرق الأوسط، كما تعرفون، هي عبارة عن حروب وإنفجارات وقتل… كما أنها أيضاً قصة العديد من المرضى الذين يتم علاجهم هنا». يقول الدكتور ظافر عبيد الذي يشرف على «قسم الصحة النفسية السلوكية» في واحدة من عيادات «أي سي سي» في مدينة ديترويت.
وعبر هذا القسم يوفر المجلس خدمات الوقاية والعلاج من المشاكل الإجتماعية والنفسية التى تواجه أبناء الجالية العربية والكلدانية وباقي مكونات المجتمع المحلي في منطقة ديترويت الكبرى ممن عانوا من ويلات الحروب والتعذيب. ويواصل «المجلس العربي والكلداني» توفير العناية الطبية للاجئين منذ تأسيسه قبل ثلاثة عقود، ولكن في السنوات الأخيرة ازدادت أنشطة هذه المؤسسة غير الربحية بسبب تدفق عشرات آلاف اللاجئين الجدد إلى منطقة جنوب شرق ميشيغن.
فعلى سبيل المثال، تشير التقارير الى أن حوالي ٣٠ ألف عراقي انتقلوا للعيش في منطقة ديترويت منذ غزو العراق العام ٢٠٠٣، هذا الى جانب ارتفاع أعداد المهاجرين من سوريا ولبنان واليمن وغيرها من البلدان العربية التي تشهد اضطرابات وحروب.
وفي هذا الصدد، يقول الدكتور ديفيد النجار من عيادته في مدينة ستيرلنغ هايتس حيث يتركز تواجد الكلدان والمسيحيين العرب في منطقة ديترويت، إن «أي سي سي» تشكل مصدر دعم حقيقي للجالية و«نشكر الله على وجود خدماته التي تمتد وتتوسع ويتوفر الكثير منها مجاناً، كتعليم اللغة الإنكليزية والتوجيه للحصول على وظيفة وكيفية الإعتناء بالصحة. كما أن خدمات الصحة النفسية متوفرة مجاناً الى جانب بعض خدمات العناية بالصحة الجسدية». وأكد النجار «أن كل هذه الخدمات تجعل حياة اللاجئين أسهل بكثير».
ويقوم الطبيب بإجراء فحوصات نفسية وسلوكية للاجئين الذين يطلبون مساعدة «المجلس»، ويتولى إحالة بعضهم الى «مركز العلاج من الصدمات» في مقاطعة ماكومب. ويضيف النجار «لقد اضطررنا الى تحويل كثيرين الى المركز العلاجي لأن معظمهم مازالوا تحت تأثير الأحداث والأهوال الصادمة وبالتالي فهم بحاجة -على الأقل- إلى فترة من الوقت ليتعافوا». ويذكر أن «مركز العلاج من الصدمات» هو ثمرة جهد مشترك بين المجلس العربي والكلداني و«جامعة وين ستايت»، وقد وفر المساعدة لأكثر من ٣٠٠ عائلة عانى أفرادها من صدمات جسدية وعاطفية.
معالجة ضحايا الحروب والتعذيب
يقول الدكتور عبيد إن «الصدمات النفسية شائعة بين اللاجئين الذين عانوا من الحروب»، كما أن الكثيرين منهم يعانون من المشاكل النفسية والسلوكية بسبب ظروف معيشتهم القاسية في مخيمات اللاجئين، بحسب الدكتور النجار. واستطرد عبيد أن أغلبية المشاكل هي نفسية بسبب التنقل الكثير من مكان إلى آخر، «فهم عندما يصلون إلى هنا يكونون قد تعرضوا لكدمات وصدمات متعددة».
الأغلبية العظمى من اللاجئين الذين يساعدهم المجلس هم من العراقيين الذين هربوا إلى بلدان مثل تركيا والأردن ولبنان وداخل سوريا قبل أن يستقروا لاحقاً هنا في الولايات المتحدة. وأشار الدكتور النجار أن بعض اللاجئين شهدوا قتل أحبائهم أمام أعينهم وآخرون شاهدوا تقطيع أوصال الآخرين من الضحايا في الشوارع. كذلك تلقى بعضهم رسائل تهديد بالقتل تنذرهم بالمغادرة إلى خارج بلدهم. وأورد الدكتور عبيد مثالاً عن الحالات الإنسانية فقال إن «إحدى المرضى تعاني من صدمة عنيفة بعد مقتل زوجها بإنفجار سيارة في العراق.. لقد ترملت ولديها أطفال عليها الاعتناء بهم».
المعالِجة الإكلينيكية في مركز «العلاج من الصدمات»، ناديا حبحاب، تقول إنه «بالإضافة إلى معاناة اللاجئين من صعوبة التأقلم مع حياة جديدة في بلد جديد، عليهم أيضاً أن يتلقوا العلاج من آثار الصدمات التي تعرضوا لها». وأضافت حبحاب «أن جزءاً كبيراً من الصدمة سببه الإقتلاع من الأرض الأم والتمييز والاضطهاد الديني».
وذكر الدكتور عبيد قصة فتاة عراقية تبلغ من العمر ١٥ عاماً وهو يعالجها حالياً من صدمة مشاهدة عمليات القتل في الشوارع السورية بعد أن هربت إلى سوريا من جحيم الحرب في العراق لتجد جحيماً يضاهيه سوءاً. فهي شهدت عمليات إعدام نفذها أفراد ميليشيا مسلحة، مما ولّد لديها كآبة واضطرابات عصبية ومازالت تعاني منها حتى الآن»، وتضيف «لدى كل لاجىء عراقي قصص محزنة بسبب مشاهدة القتل اليومي في الشوارع».
ومعاناة العراقيين لا تقتصر على السنوات الأخيرة، حيث يشير عبيد الى وجود حالات عانى أصحابها من الصدمة لأكثر من عقدين من الزمن قبل التوجة لطلب المساعدة من «أي سي سي»، «هناك عائلة عراقية هربت من العراق في التسعينيات كان لديها صبيان سجنهما النظام العراقي السابق وقتلهما مما أدى إلى إصابة إحدى البنات في العائلة بالإكتئاب الشديد والاضطرابات العصبية لسنوات طويلة. وكانت هذه العائلة قد تلقت أيضاً رسائل تهديد بالقتل تأمرها بمغادرة مدينتها».
والجدير بالذكر أن الكثير من العراقيين المسيحيين الذين انتقلوا للعيش في سوريا هرباً من الاضطهاد الديني في مناطقهم بعد احتلال العراق، عادوا وهاجروا الى الولايات المتحدة، واستقر معظمهم في ولايات كاليفورنيا وميشيغن إضافة الى أريزونا وتكساس. كما أن هناك دعوات في الكونغرس الأميركي لاستقبال المزيد من اللاجئين السوريين الذين من المتوقع بحال الموافقة على مجيئهم الى أميركا، أن يتركزوا في المناطق ذات الكثافة العربية وفي مقدمتها منطقة ديترويت لما توفره من خدمات وأرضية مرحبة بالقادمين الجدد من البلدان العربية.
بداية جديدة
يعتقد المجلس أن ضحايا التعذيب هم من المرونة بحيث يمكنهم التعافي من الصدمات النفسية التي تعرضوا لها جراء التعذيب الجسدي، وأن البرامج الصحية التي أنشأها المجلس كفيلة بإعادة بناء حياتهم. وحول ذلك أشار الدكتور عبيد إلى أن اللاجئين يشعرون بالسعادة لمغادرتهم ساحات الحرب «فهم لا يشعرون بالخوف بعد ذلك لكن الوضع يتعقد بالنسبة إليهم بسبب انتقالهم إلى بلد جديد».
العديد من اللاجئين كانوا يقضون حياة مستقلة ومنتجة في بلدانهم قبل أن يضطروا إلى اللجوء وطلب المساعدة في أميركا. ورغم اضطرار آلاف العائلات للإعتماد على المساعدة الحكومية تبقى هذه الفكرة غير محبذة للكثيرين ممن يودون تحقيق مستقبل أفضل على «أرض الفرص»، حيث أن كثيراً من اللاجئين هم من أصحاب المهن والمهارات والشهادات، لكنهم غالباً ما يجدون صعوبة في شق طريقهم بسبب عامل اللغة أو عدم القدرة على إثبات أنهم من حملة الشهادات الجامعية.
وحسب عبيد أيضاً فإن اللاجئين بأكثريتهم كانوا مورداً هاماً لمجتمعاتهم بسبب مواهبهم العلمية وشهاداتهم الجامعية التي كانت تساهم في رفعة هذه المجتمعات، وأضاف «أغلبيتهم بإمكانهم التغلب على الصدمة ونصيحتي لهم أن يطووا الصفحة ويبدأوا حياتهم من جديد، وينسوا كل ماحصل هناك.. فالعراق مازال بلدكم ولايزال لكم فيه أقارب وعائلات لكن عليكم تكوين حياة جديدة من البداية».
بالنسبة إلى مدة التعافي من الصدمات النفسية يشير الطاقم الطبي في المجلس العربي والكلداني إلى أن هذا يعتمد على مدى قساوة التجربة وشدتها، وعلى قدرة المريض على التكيف بسرعة مع الواقع الجديد. وزاد الدكتور عبيد على ذلك بالقول «لقد رأيت مرضى إستغرقت عملية تأقلمهم مع البيئة الجديدة سنة أو سنتين، والبعض الآخر إحتاج إلى سنين أطول إلا أن اللاجئين الشباب يميلون إلى التعافي بوقت أسرع من الكبار لأنهم ينشغلون بالدراسة والعمل، أما الكبار فيأخذون وقتاً أكبر لأنهم يظلون يبكون على الأطلال ويتذكرون الماضي». وهناك صورة نمطية سائدة عن اللاجئين الذين يستوطنون في منطقة ديترويت، والواقع أن العديد منهم يظنون أنهم لن يقدروا أن يساهموا في خدمة مجتمعهم بعد الآن وأن قدرهم أن يعيشوا على ما توفره المساعدات الحكومية، ولكن هذا غير دقيق فهناك لاجئون ساهموا في إزدهار المنطقة بإفتتاحهم مصالح تجارية صغيرة وآخرون تمكنوا من الحصول على وظائف مهمة في حقول مختلفة.
حبحاب تؤكد أن أكثر قضايا اللاجئين صعوبة هي تلك المتعلقة بالعائلات التي لديها أولاد ممن شهدوا فقدان أب أو أم لهم. وتقول «هناك حالات كثيرة من هذا النوع حيث يسعى الأرامل لمساعدة أولادهم بأنفسهم.. لكن الأولاد يجدون صعوبة في التعبير عن حاجاتهم ومكنوناتهم ما يزيد الأمور تعقيداً على الجميع».
بالعربي
أغلبية اللاجئين يشعرون بالاطمئنان الكافي للتوجه لطلب المساعدة من المجلس العربي والكلداني أكثر من غيره من المؤسسات غير الربحية المتواجدة في المنطقة بسبب وجود موظفين ثنائيي اللغة يتحدثون العربية والإنكليزية. وقد أفادت حبحاب «أنا أعرف أنهم إذا ذهبوا إلى طلب العون من مؤسسات أخرى فإنهم سوف يواجهون عوائق ثقافية ولغوية ولكن عندما يكون هناك موظفون من نفس الثقافة ويتحدثون نفس اللغة فإن ذلك يساعد على خلق بيئة مرحّبة. وتابعت بالقول إن العديد من المهاجرين «يشعرون بالخزي والعيب» لطلب المساعدة النفسية.. «لكنه عليهم أن يدركوا أنهم ليسوا لوحدهم، فهذه الخدمات متاحة لهم ونحن نعمل كل ما في وسعنا لنشعرهم بأننا في خدمتهم ومهمتنا مساعدتهم».
يذكر أن «أي سي سي» هو واحد من أكبر المنظمات الخدماتية في ولاية ميشيغن ولديه ٤٠ فرعاً خدماتياً في منطقة ديترويت كما أن قسم «الصحة السلوكية» الذي يوفره عبر خمسة من مراكزه لا تقتصر خدماتها على اللاجئين فقط بل يستفيد منها كل المحتاجين من كل الخلفيات العرقية والثقافية والإثنية من دون تمييز.
لمعرفة المزيد عن خدمات «المجلس» يمكن زيارة الموقع الإلكتروني www.myacc.org
Leave a Reply