قادني نداءُ الواجب لزيارةِ إحدى صديقاتي الراقدة في المستشفى، جلستُ في غرفة الإنتظار لبعض الوقت، أنتظر انتهاء مهمّة الطبيب ومغادرته لغرفتها، وأثناء ذلك حضرتْ سيّدة حامل تصحبها صديقةٌ لها، جلستا بجانبي، ودارَ بينهما حوار حول الرضاعة الطبيعيّة. نصّبت الصديقةُ نفسها خبيرة في كلّ شيء، وراحت تُسدي النصائح لصديقتها الحامل بعدم إرضاع جنينها بعد ولادته، من ثدييها، حفاظاً على رشاقة جسدها من جهة، ولأنّ الحليب الصناعي متوفّر ويُعطى للأمّهات »مجّاناً» من جهة ثانية.
لم أشأ أن أتطفّل بسماع حديثهما، لكن الصوت العالي سرّبَ ذبذبات الحديث إلى أذنيّ، لاسيّما أنه لم يكن أحدٌ سوانا في غرفة الإنتظار تلك.
استفزّني ذلك الهراء والرأي الخاطيء، ممّا دعاني وحفّزني إلى الكتابة عن هذا الموضوع، خصوصاً وهو يدخل ضمن اختصاصي العلمي، إذ عملتُ لمدّة 25 سنة في رعاية الأمومة والطفولة بوزارة الصحّة، وكان من برنامج عملي إلقاء محاضرات حول هذا الإختصاص وإرشاد الأمّهات حديثات الولادة إلى فوائد الرضاعة الطبيعيّة، سواءً للطفل أو للأم.
الرضاعة الطبيعيّة وحسب الحقائق العلميّة، هي الطريقة المُثلى لتغذية طفلكِ، رغم معرفتي بأنّ هذا الخَيار ليس مُتاحاً لبعض الأمّهات، يعرف جسمُكِ تماماً احتياجات طفلكِ فيحضّر له خلطة مثاليّة من المغذّيات في صيغة حليب ثديكِ، فحليب الأم يحتوي على بروتين ودهن ملائم وسكّر وفيتامينات ومعادن، بنسَبٍ تساعد طفلكِ على النموّ الأمثل، لأنّكِ تتناولين أغلبَ الأطعمة، وحليبكِ هو خلاصة ما تتناولين من طعام مع ملاحظة تخفيف أكل «الملفوف» لأنّه ينتج غازات تنتقل إلى طفلكِ كما أنّ «القرنبيط» يغيّر قليلاً من طعم الحليب، وليس من الصعب تجنّبه.
إنّ حليب الأم يحمي الطفل من العدوى والنزلات الصدريّة والمعويّة والحسّاسيّات والربو وموت الأطفال المفاجيء، كما يقي بالإضافة إلى ذلك من مجموعة من الأمراضِ الأخرى، عدا عن إسهامه في تنمية ذكاء الطفل، والعاطفة التي تربط بينه وبين أمّه.
يكبر حجم الثديَين بعد الولادة نتيجة الإزدياد الهائل لعدد غُدد الحليب، لأنّ الإستروجين والبرولاكتين يعملان أثناء فترة الحمل على زيادة تلك الغُدد وأقنيتها في ثديَيكِ، فإنّ الغُدد هي الأماكن التي ينتج فيها الحليب، والأقنية هي الأنابيب التي توصله إلى الثقوب المتصدِّرة لحلمتَيكِ، وبعد الولادة مباشرةً يفرز ثديكِ مادّة صفراء اللون تسمّى «اللبأ»، إيّاكِ أن تُزيليها أوتفرّطي بها، افرغيها بفم طفلكِ، لأنّها تحتوي على بروتينات وفيتامينات ومعادن ومضادّات حيويّة لمكافحة الإلتهابات، بعدها يتحوّل هذا اللبأ إلى حليب يختزن في ثديكِ ويبقى لعدّة أيّام، وعليكِ إفراغه تباعاً في فم طفلكِ، ارضعيه وحاولي أن تكون الهالة السوداء المحيطة بالحلمة داخلة في فمه، لكي لا تحصل تشققات في الحلمة وتعانين من ألم الموضع لاحقاً، حاولي إخراج الحليب يدويّاً بمناوبة الضغط على الثدي، ودلّكي صدركِ تحت دوش دافيء، وضعي الحليب الزائد في الثلّاجة، حيث يمكن إرضاعه للطفل خصوصاً في حالة خروجكِ من البيت لقضاء حاجاتك.
الرضاعة من الثدي لها مفعول وقائي، كما أنّها تساعد على تضييق الرحم بعد الولادة وإعادته إلى حجمه الطبيعي، وتعيد الشكل الجميل إلى جسمكِ، وهنا عليكِ أن تهتمّي بغذائكِ، تناولي خاصّةً المأكولات المحتوية على الكالسيوم والمغنيسيوم والحديد، والأهمّ أن تشربي كمّيّة كافية من عصير الفواكه الطازجة يوميّاً، وابتعدي عن تناول التوابل والكافيين قدر المستطاع، ولا تستمعي لأقوال من ليس لهم دراية بهذا المجال. إنّني أستغرب من ممارسة المستشفيات هنا لإجراءات خاطئة، إذ عند مغادرة الأم بعد الولادة من المستشفى يعطونها حليباً صناعيّاً بيد، وطفلها باليد الأخرى، بدلاً من أن يشجّعوها على الرضاعة الطبيعيّة ويشرحوا لها فوائدها، يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة} «البقرة (233).
ارضعي طفلكِ من ثديكِ، وضمّيه إلى صدركِ كي يشعر بالأمان والحنان، وراقبي وزنه دائماً، وواظبي على تزويده باللقاحات اللازمة التي تحميه من الأمراض، واعتني بغذائه إلى جانب حليبكِ، بذلك ينمو نموّاً سليماً، وبذلك تكونين قد قمتِ بواجبكِ على أكمل وجه، ووفّرتِ على نفسكِ عناءَ مرضه، وأنشأتِ للمجتمع فرداً سليماً تفخرين به مثلما هو يفخر بكِ، انظري الدليل في زرافات الأجيال الصاعدة التي تدبّ أمامكِ في مختلف مجالات الحياة الراقية، حيث سيكون ابنكِ بفضلكِ واحداً من المنتجين المبدعين بينهم.
Leave a Reply