بقلم: كمال العبدلي
تظافرَتْ جهودُ الأدباءِ العراقيّين التقدّمِيّين، خلالَ الفترة التي أعقبَتْ ثورةَ الرابع عشَر من تمّوز عام 1958 -هنا أثبّتُ إدانتي الشخصيّة للمجزرة التي حلّتْ بالعائلة المالِكة إبّانها- فأسْفَرَتْ تلك الثورة عن تأسيسِ اتّحادِهِم بعنوان «إتّحاد الأدباءِ العراقيّين»، وكان لشاعرِ العربِ الأكبر محمّد مهدي الجواهري، الدورُ الرئيسي والمِحوَري في التحضير له، وإجازتِهِ رسميّاً، فانتُخِبَ بالإجماع كأوّلِ رئيسٍ للإتّحاد عقبَ تأسيسِهِ في العام 1959، يروي الشاعرُ الراحل رشدي العامل في إحدى مذكّراتِهِ المنشورة في جريدة «طريق الشعب» البغداديّة ضمن أحد أعدادِها الصادرة في العام 1975،على ما أتذكّر، بأنّ أصغر كوكبةِ الأدباءِ عُمراً كانوا ثلاثة شعراء هم على التوالي، سعدي يوسف، محمّد سعيد الصكار، ورشدي نفسه، (منهم من يضيف إليهم الشاعرَيْن يحيى بابان ونزار عبّاس، والوحيد الذي يمكن له التصحيح اليوم هو الشاعر سعدي يوسف) وكانت تضمُّ شملَ باقتِهِم حديقةُ اتّحاد الأدباء، حيث يتّخذون مجلسَهم المُشتَرَك، بإحدى زواياها، وكنتيجةٍ لانسِجامِ أفكارِهم، وتقارب وجهات نظرِهِم، وتبوّئهم المكانة الحقيقيّة السامية للإبداع، تفتّقَتْ أذهانُهم المُتآلِفة عن فكرة إطلاق تسمية «جماعة المرفأ» على مثلّثِهم الشبابيّ، لما كانت تجمع بينهم من نظَراتٍ ثاقبة لقادمِ الزمن، وما يتوافرون عليه من استشفافٍ للمستقبل، إذْ لمْ يقرِّروا في أيِّ مرفأ سترسو سفينتُهم، أيْ أين سيحلُّ بأيٍّ منهم المقام في رِحلةِ السفينة، حيث كان الأمرُ بالنسبة للثلاثةِ رهنَ غياهبِ المجهول.
الصكار |
وبعدَ أنْ دارتْ دواليبُ الهرميّين السياسيّين الدمويّة، لم يفلتْ من تعدّياتها الأدباء، حيث طالتْهم اضطهاداً وتضييقاً عليهم، ومطارتهم وملاحقتهم، حتّى وصلَ الأمرُ إلى إشعالِ نارِ الحرب من حاضرتِهِم العريقة التي اشتهرَتْ عبرَ تأريخِها بـ«دار السلام»، تلك الحرب التي لمْ ينبرِ لها رأسُ حِكمةٍ عربيٍّ واحدٍ ليحقنَ الدماء، ولو كان الجبروتُ المُقرِّرُ لها بحجمِ ربعِ الأرض، ذلك أنّ تلك الدماء، إنْ لمْ تكنْ لإنسِيّين لهم الحقّ الطبيعي في التمتُّعِ بالحياة، فإنّها على الأقلّ دماءُ مخلوقاتِ الله الأبرياء، المُحَرَّم قتْلُها وإبادتها، كانتْ حصّةُ الشاعر رشدي العامل من تلك الدواليب، بعد تعرُّضِهِ لمرّاتٍ عديدة إلى الإعتقال، أن انزوى، حتّى قضى نحبَهُ في بغداد إثرَ إصابتِهِ بالشلل.
أنقلُ هنا واحدةً من قصائدِهِ المعبِّرة عن تلك الأجواء:
القطارُ الذي لن يجيءْ
والشراعُ الذي لا يلوحْ
عذبتكَ المسافاتُ، يا أيها الحلمُ،
بين الهوى والجروحْ
هل تغادر عيني، وترحلُ عنّي،
فسواءٌ لديَّ الجراحُ التي تستفيقُ بصدري،
ونزفُ القروحْ
وسواءٌ هو الوردُ والشوكُ،
يا أيها الحلمُ عند اختلاجِ المساءْ
حين تدنو المسافةُ بين الولادةِ والانتهاءْ
وسواءٌ طريقٌ يضمُّ المدانينَ والأبرياءْ
وسواءٌ هو الذلُّ والكبرياءْ
في زمانٍ رديء
***
سأدفن تحت الثلوجِ عظامَ الضحايا
علها تستفيقْ
ذات يومٍ لعلَّ البريقْ
يعود اليها ويرقصُ بين عيونِ المرايا
ولعلّ الحريقْ
لم يكن غيرَ رعشةِ برقٍ تلألأ
فوق الزوايا
***
مرحباً أيهذا الخيالُ الذي لا يمرّ بعيني
ويا أيّها الصوتُ يدنو،
ويا أيّها الوجهُ يخفي عيون
إنّ دربَ المفازةِ ملحٌ وشوكٌ
وأقدامنا تعبتْ ومدانا بعيدْ
قد أضعنا مع الليلِ راياتنا،
ونسينا النشيدْ
***
أيّ ريحٍ أتتنا لتطفيءَ ضوءَ المصابيحِ في بيتنا،
أيّ ريحْ
أيّ كفٍّ دنت لتخضَّ دماءَ الجريحْ؟
أنتَ يا وطني عاشقٌ،
وأنا في ثراكَ الذبيحْ..
وإبّانَ فترةِ الحرب، قبل نهايةِ العام 1985 كان يراسلُهُ صديقُهُ ورفيقُه في «جماعةِ المرفأ» الشاعر محمّد سعيد الصكار من مُغتَرَبِهِ، والذي غادرَ الوطنَ مُكرَهاً، نتيجةً لمُحاصرته والتضييق عليه، من قبلِ أقزامِ السلطة الأدعياء والدخيلين على عالَمِ الثقافة، إلى أن استقرّ بهِ المرفأ في باريس، ومنها كانت تصلُ رسائلُهُ سرّاً، فيكتب رشدي جواباً، هنا أنشرُ نصَّ إحداها، كما وردتْ عنهُ:
وهذه إجابتي عن رسالة حملها إليَّ الأخ
عيسى مخلوف منه:
(ماذا تريد أن أخبرك عنّي؟
ظهيرة هذا اليوم قلبتُ محض صدفة، أوراقي بحثاً عن مقالة ما.. فإذا باسمك الجميل «يصنكر» أمام عيوني، عليك اللعنة! كنتَ تتحدث عن «المرفأ» ذلك «الكائن» الأسطوري الذي عاشته جوانحنا المتعبة ورؤانا المستحيلة، بودّي أن نظلَّ معاً، عبر الحروف، إذا لم يكن عبر العيون المطفأة.
ما يزال الشعر رفيقي الدائم –إطمئن- وما تزال في العروق ينابيع منه..
رسالة عاجلة، بلا شك، سيحدثك عنها الأخ عيسى، انا في شبه عزلة اختيارية، فلقد رستْ مراكبي أخيراً.. لا أنتظر شيئاً، ولا أتطلع إلى شيء.. مرافئي البعيدة أطفأتْ انوَارها.. وانصرف الملاحون إلى عبثهم.. أنتظر رسالة منك..
أباركك وألعنك وبالعكس.
29-11-1985
(رشدي)
وفي رحيلِ الصكار، لم يتبقَّ من جماعةِ المرفأ سوى الشاعر الشاعر (نعم مكرَّر) سعدي يوسف الذي تجاوزتْ ظِلالُهُ الشعريّة منطقتَهُ العراقيّة والعربيّة إلى رِحاب لاتُحَدّ من الأرض، لأخاطبَ الصكار:
ليتَ المرفأَ –قبلَ الرحيل- كان بغداد..
Leave a Reply