كمال ذبيان
من المتعارف عليه في لبنان، أن رئيس الجمهورية يبدأ عهده عروبياً ووطنياً، لينهيه انعزالياً مارونياً، يخطب ود طائفته وجمهوره ليتحول الى رمز مسيحي يكون له دور سياسي، وقد انطبق هذا التشخيص على عدد لابأس به من رؤساء الجمهورية، بإستثناء بعضهم وأبرزهم الرئيس إميل لحود الذي بقي على قناعاته تجاه المقاومة والعلاقة مع سوريا، وهو المتحدر من عائلة وطنية، ومن المؤسسة العسكرية التي تولّى قيادتها، وحوّل الجيش الى صاحب عقيدة قتالية نهجاً وممارسة، فأرسى المقولة الشهيرة «الجيش والشعب والمقاومة»، فلم يسجل في أثناء وجوده في قيادة الجيش أي صدام مع المقاومة، لا بل هو مَن تصدى في العام 1993، لفكرة إرسال الجيش الى الجنوب لمنع المقاومة من القيام بعمليات ضد الإحتلال الإسرائيلي، حيث كان يُنصب فخ للجيش لضربه بالمقاومة، وتنفيذ ما هو مطلوب أميركياً وإسرائيلياً، بعد عدوان تموز 1993، أن يتحول الجيش الى «حرس حدود» للكيان الصهيوني، ويمنع تواجد المقاومة في الجنوب، وترك أمر تحريره للدبلوماسية لتنفيذ القرارات الدولية التي بقيت حبراً على ورق لحوالي أكثر من عقدين، ولملاقاة التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي التي انطلقت في مؤتمر مدريد للسلام وكان ممثلون لأطراف لبنانية يراهنون عليها، وأن لا حاجة للمقاومة، بعد أن بدأت مفاوضات السلام، غير المعني لبنان بها، إلا من الجانب المتعلق بالوجود الفلسطيني على أرضه، وتأمين حق العودة للنازحين، وهو ما أسقطته إسرائيل حتى اليوم، ولا تعترف لهم به.
أما خلف الرئيس لحود، رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، فإنه بدأ عهده مسلّماً بـ«الثلاثية الذهبية» (الجيش والشعب والمقاومة)، والتي وردت في الحكومات المتعاقبة في عهده، ليخرج وقبل إنتهاء ولايته بكلام اعتبر خارجاً عن المألوف ليصف المعادلة بـ«الخشبية»، لمنع تمريرها في البيان الوزاري للحكومة الحالية برئاسة تمام سلام، وأظهر انحيازاً لفريق «14 آذار» الذي كان يدعو الى رفض هذه الصيغة واعتمادها، وأنها سقطت عندما تحوّل سلاح «حزب الله» باتجاه سوريا مقاتلاً الى جانب النظام فيها، وهو ما أكّد عليه الرئيس سليمان في إحدى خطبه عندما أشار الى أن أحد أضلع الثلاثية وهو المقاومة قد سقط في سوريا، مما رفع من حالة التوتر بينه وبين «حزب الله» الذي أصدر بياناً مقتضباً، وصف فيه سليمان بـ«ساكن بعبدا» الذي يحتاج الى رعاية وعناية، واعتباره غير مؤهل لرئاسة الجمهورية، وكانت رسالة مباشرة له، أن لا يحلم بالتمديد له، وهو ما يسعى إليه، إذ اعتبر موقفه من المقاومة واعتبارها خشبية، وإخراجها من معادلة القوة في لبنان، تقديم أوراق اعتماد لدول عربية وتحديداً الخليجية المؤثرة في لبنان، الى جانب دول أجنبية ومنها أميركا وفرنسا، من أجل العمل للتمديد له بالرغم من إنكاره له، لكن معلومات وصلت قبل حوالي عامين الى قيادة «حزب الله» بأن سليمان فاتح مسؤولين في السعودية وقطر ودول أخرى، إضافة الى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وأصحاب القرار في الإدارة الأميركية، أن يوافقوا على التمديد له، متذرعاً بأن ظروف الإستقرار المدعوم دولياً وإقليمياً تتطلب أن يبقى هو في رئاسة الجمهورية، ريثما ينجلي الوضع في سوريا، إضافة الى أن الإنقسام السياسي الداخلي في لبنان، لن يوفّر مناخاً إيجابياً لحصول الإنتخابات أو التوافق على مرشح-تسوية، وأن من الأفضل التمديد له، لهذه الأسباب، على أن تكون سياسته الى جانب هذه الدول، بعدم التأييد للنظام السوري، الذي كان سليمان من المراهنين على سقوطه، فقرر أن يبدأ بالهجوم عليه، لإرضاء الدول التي تدعم المعارضة في إطار ما سمي بـ«مؤتمر أصدقاء سوريا»، كما يؤكّد حلفاء سوريا في لبنان، في تحليلهم لموقف رئيس الجمهورية الذي قرّر أيضاً شطب المقاومة من المعادلة الثلاثية، لتقديم فواتير لمن يدين مشاركة «حزب الله» في القتال بسوريا، واعتبر تدخله خروجاً عن «إعلان بعبدا»، وهو ما ترك الموقف من الرئيس سليمان يتصاعد سواء من «حزب الله» أو حلفائه، وقد تمّ إبلاغه بعدم التفكير أبداً بالتمديد له، إذا كان الثمن الذي سيدفعه هو المقاومة، أو ترك خاصرة لبنان رخوة، تسمح لعبور السلاح والمسلحين من الحدود اللبنانية، وتتركها مفتوحة أمام التكفيريين وسياراتهم المفخخة.
لقد كشف الرئيس سليمان عن وجهه، كما يقول قياديون في «حزب الله»، فهو الذي كان محل إشادة دائمة من قبل الأمين العام السيد حسن نصرالله وعلى تواصل دائم معه، فإذا به ينقلب على المقاومة التي يعرف هو من موقعه كقائد للجيش شهد التحرير عام 2000، والتصدي للعدوان الإسرائيلي في تموز 2006، أهمية هذه المقاومة في ردع العدو الإسرائيلي، وتشكيل قوة دفاع حقيقية عن السيادة اللبنانية، إذ حاول أن يسقط عنها شرعيتها التي استمدتها من انتصاراتها، وهو ما دفع السيد حسن نصرالله الى الرد عليه، وقبل 48 ساعة من دعوته أعضاء طاولة الحوار الى الإجتماع في بعبدا، في خطوة ملتبسة وقبل اقل من شهرين لانتهاء ولايته تحت عنوان البحث في «الإستراتيجية الوطنية الدفاعية»، وجعل المقاومة موضع نقاش وخلاف، وإسقاط صفتها الوطنية عنها، لتحويلها الى فئوية تخص حزباً وجماعة، متمردة على الدولة ولا تأتمر بأوامرها، فتخرج عن «إعلان بعبدا»، وتزج لبنان بصراع محاور، وتنقل الحريق السوري إليه، دون أن يلتفت رئيس الجمهورية الى أن ذهاب «حزب الله» الى سوريا، هو لمنع وصد وصول التكفيريين الى لبنان، ولو تسنى لهم ودخلوا إليه، فالإلغاء سيكون شاملاً للجميع كما أكّد السيد نصرالله، وهو ما حصل في سوريا للجماعات التي لا تدين بفكرهم التكفيري، حتى في داخل الفريق التكفيري الواحد «لجبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، فإن القتال الذي يدور بينهما في أكثر من منطقة في سوريا، وسقوط آلاف القتلى منهم، يكشف عن ماذا يضمر هؤلاء الإرهابيون.
فطاولة الحوار التي دعا إليها سليمان وقاطعها «حزب الله»، وحلفاء له في «8 آذار»، وحضرها آخرون، كان قصد الداعي لها، أن يلعب آخر أوراق لعبته للتمديد الذي مازال مطروحاً من قبل قوى خارجية، ويروّج له نواب قريبون من «تيار المستقبل» الذي سبق وأيّد التمديد الذي رحبت به السعودية، وأعلن عنه سفير فرنسا في لبنان عبر الإعلام أن حكومته تدعم بقاء سليمان في رئاسة الجمهورية، الذي عليه أن يمرّر الإستراتيجية الدفاعية تحت عنوان حصرية السلاح في يد الجيش، والإستفادة من الدعم المالي له عبر المملكة السعودية لتجهيزه، وكذلك من المؤتمرات الدولية التي تنعقد لصالح تعزيز الجيش، كي يبقى القوة العسكرية الوحيدة في لبنان، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، واعترف سليمان أن مَن يريد التمديد، لا يهاجم المقاومة، ولا يعمل على شطبها، وقد وصلته رسالة السيد نصرالله عالية النبرة، بأنك أنت لست مَن يقرر إذا كانت المقاومة ذهبية أم لا، وأنها خشبية في مفهومك، لأن الذهب يبقى ذهباً، والخشب تحوّل الى «توابيت»، ينقل بهم العدو قتلاه من لبنان، حيث حاول رئيس الجمهورية تصحيح الخطأ وقبل يوم من الحوار، وفي كلمة له في جبيل فتحدث عن القدرات القومية والمقاومة للبنان، لكن ما حصل قد حصل، وارتكب خطأ استراتيجياً، بأن تحوّل عن المقاومة، ووقف في صف المعارضين للنظام السوري فأكّد على مقولة، أن رئيس الجمهورية يبدأ عروبياً ووطنياً، لينتهي انعزالياً ومارونياً، إذ يتّهم معارضو سليمان، أنه يريد أن يحجز له موقعاً سياسياً بعد أن يخرج من قصر بعبدا، وهو غير متوفر له في «8 آذار»، فقرّر أن يكون في «14 آذار»، وينطق باللغة التي تجيدها، وهي معاداة المقاومة والعمل لإسقاط النظام السوري، حيث يقول معارضو سليمان، إنه لم يكن وفياً أبداً، فإن مَن أوصله الى قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية فيما بعد هي سوريا التي عندما ضعفت انقلب عليها، كما خرج على المقاومة مشهّراً، بعد أن كانت تعتبره حاضناً لها.
إنها السلطة، إنها الطائفية السياسية، إنها رئاسة الجمهورية التي لا تشبع صاحبها ست سنوات، بل يريد الأكثر بالتمديد… فهل إنتقل سليمان في آخر عهده من المقاومة الى المقاولة؟…
Leave a Reply