بقلم صبحي غندور
حمّلت الإدارة الأميركية الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني مسؤولية تعثّر المفاوضات بينهما، والتي يرعاها منذ 9 أشهر وزير الخارجية الأميركي جون كيري. ويأتي هذا الموقف الأميركي بعدما رفضت حكومة نتنياهو الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، وبعد استمرار الإستيطان اليهودي في القدس وفي الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، بينما جرى على الطرف الفلسطيني إعلان القيادة الفلسطينية عزمها الانضمام إلى معاهدات ومواثيق دولية ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة.
المشكلة هنا بالموقف الأميركي أنّه يواصل المساواة مجدّداً بين القاتل والضحية، بين المعتدي المحتلّ وبين صاحب الحقّ في الأرض، بين من خالف الشرعية الدولية منذ قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وبين شعبٍ مطرودٍ من أرضه ومحرومٍ من دولته ووطنه.
حكومة نتنياهو هي التي واجهت أولاً إدارة أوباما ورفضت مطلبها بوقف الإستيطان، وتستمرّ بهذا الموقف، وهي التي رفضت مؤخّراً تطبيق الاتفاق بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، واشترطت لتنفيذ ذلك إطلاق سراح الأميركي (الجاسوس لإسرائيل) جوناثون بولارد المعتقل منذ ثلاثة عقود في الولايات المتحدة، ثم تأتي الملامة الأميركية على الطرفين معاً!، وتخرج التسريبات عن استعداد واشنطن لإطلاق الجاسوس بولارد، ولتحصل المساواة أيضاً بين أسرى فلسطينيين كانوا يقاومون الاحتلال وبين عميلٍ إسرائيلي خان وطنه الأميركي!.
لقد نجح نتنياهو في السنوات الخمس الماضية في ابتزاز إدارة أوباما والحصول على أقصى درجات الدعم العسكري والأمني الأميركي (إضافةً إلى الدعم المالي الكبير المستمر لعقود)، مقابل عدم قيام حكومته بضربات عسكرية انفرادية ضدّ إيران. وهاهو نتنياهو يمارس أسلوب الابتزاز نفسه في الملف الفلسطيني مع الجانبين الأميركي والفلسطيني، دون أن يقدّم أي شيء عملي بخصوص القضايا الكبرى التي هي موضع التفاوض.
لقد كان من الخطأ أصلاً قبول السلطة الفلسطينية بالتراجع الأميركي عن ضرورة وقف الإستيطان قبل استئناف التفاوض، ثم تراكم هذا الخطأ حينما جرى ربط التفاوض بإطلاق أسرى فقط، وهو أمرٌ تقدر إسرائيل على نقضه في أي وقت طالما أنّ من يُفرَج عنهم سيعيشون ضمن المناطق الخاضعة للهيمنة الإسرائيلية، ويمكن لإسرائيل إعادة اعتقالهم أو اغتيالهم، كما فعلت وتفعل في كلّ المناطق المحتلّة.
وجيّدٌ طبعاً أن تصرّ السلطة الفلسطينية على إطلاق سراح المناضلين الأسرى وأن تطلب عضوية المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة، لكن ذلك كلّه ما زال يجري تحت سقف «خيار التفاوض فقط»، وهو أشبه بتحريك «أثاث المنزل» وليس الخروج منه ومن محدوديّة سقفه، وبالتالي، لا يجب توقّع أن تؤدّي الخطوات الأخيرة للسلطة الفلسطينية إلى تغيير معادلة الصراع الحاصل الآن ولا واقع الإستيطان والاحتلال في فلسطين.
فالتغيير سيحصل في معادلة الصراع بإحدى حالتين: إمّا حدوث ضغط أميركي فاعل على إسرائيل وهو مستبعدٌ الآن، أو نموّ وتصاعد الحالة الفلسطينية الرافضة للمراهنة على نهج المفاوضات فقط، رغم أنّ اتفاق أوسلو قد نصّ على ذلك، وهو أمرٌ التزمت به السلطة الفلسطينية طيلة 21 سنة من عمر هذا الاتفاق.
وقد كان من الأجدر بإدارة أوباما أن تكون صادقة مع نفسها وبأن تقول للعالم كلّه أن جهودها في الملف الفلسطيني قد فشلت بسبب سياسات حكومة نتنياهو الرافضة أصلاً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ولوقف الإستيطان، وبأن ينفّذ الرئيس أوباما والوزير كيري إشارتهما إلى إمكان عزل إسرائيل دولياً ومقاطعتها، كما حصل في الماضي مع دولة جنوب إفريقيا أيام الحكم العنصري فيها.
إنّ الضغط الأميركي المطلوب على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً، من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي يقوم على رفض أي مفاوضات مع إسرائيل ما لم يتمّ الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان في كلّ الأراضي المحتلّة، إضافةً إلى إنهاء الحصار القائم على قطاع غزّة، على أن يترافق ذلك مع تجميد كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، واستنهاض خيار المقاومة الشعبية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وبذلك تكون هناك مصداقية للموقفين العربي والفلسطيني، وتكون هناك خطوات عربية جدّية داعمة للسلطة الفلسطينية في أي مفاوضات مستقبلية.
إنّ مشكلة الفلسطينيين والعرب ليست مع «الخصم الإسرائيلي» و«الحكم الأميركي» فقط، بل هي أصلاً مع أنفسهم، فالطرف الفلسطيني أو العربي الذي يقبل بالتنازلات هو الذي يشجّع الآخرين على طلب المزيد ثمّ المزيد. فقد جعل اتفاق أوسلو (القضية الفلسطينية) مسألةً خاضعة للتفاوض فقط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي هي أقلّ من حكم ذاتي على الأراضي الفلسطينية المحتلّة. وقد أخذت إسرائيل من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الاعتراف بها (دون تحديد حدود إسرائيل أو بالنصّ على أنّها دولة احتلال!) وبالتعهّد بعدم استخدام أي شكل من أشكال المقاومة، مقابل الاعتراف فقط بقيادة المنظمة وليس بأي حقٍّ من حقوق الشعب الفلسطيني!.
ولقد وضح حين توقيع اتفاق أوسلو كيف تجاوبت رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية مع المطالب الأميركية والشروط الإسرائيلية ممّا أدّى إلى وجود السلطة الفلسطينية الراهنة على «أرض» غير محدّدة بعدُ نهائياً، مقابل تسليم بسلامٍ كامل مع مغتصب هذه الأرض، ودون أيّة ضمانات أيضاً لمستقبل استقلالية «الدولة» التي ستحكم هذه «الأرض»، أو «الشعب» المشرّد بغالبيته خارج هذه الأرض. فعناصر الوطن الفلسطيني (أرض–شعب-دولة) ما زالت كلّها غير محدّدة أميركياً وإسرائيلياً، بينما مضمون «السلام» الإسرائيلي المطلوب هو الذي يتحقَّق على الأرض، في ظلّ حسمٍ أميركي-إسرائيلي ليهودية دولة إسرائيل!.
ذلك كله يحدث في فلسطين وبقضيتها المركزية أساساً للعرب أجمعين بينما الحكومات والشعوب العربية الأخرى مشغولة في أزماتها وصراعاتها الداخلية والبينية!. فاليوم، نصبح ونمسي مع إعلام عربي وطروحات فكرية وسياسية لا تخجل من توزيع العرب على طوائف ومذاهب وإثنيات (ولو متستّرة بتسميات سياسية وحزبية) بحيث أصبحت الهويّة الوطنية الواحدة غايةً منشودة، بعدما جرى التخلّي المخزي عن الهويّة العربية المشتركة.
اليوم، نجد تصعيد العنف المسلح داخل بعض الأوطان العربية، بينما هناك تمسّك عربي بنهج أسلوب التفاوض مع إسرائيل وبإسقاط خيار الحرب أو المقاومة المسلحة ضدّها، وبتفهّم «ظروف» حلفاء إسرائيل الدوليين وعدم الضغط عليهم من أجل وقف دعمهم لعدوٍّ احتلّ الأرض، وشرّد الملايين وقتل وجرح عشرات الألوف على مدار أكثر من ستين عاماً، فلا ضرورة الآن حتّى لقطع العلاقات مع هذا العدوّ رغم استمرار احتلاله وتهويده المتصاعد للقدس والأراضي المحتلة!!.
حبذا لو يتّم التوافق عربياً على حالةٍ بين العرب شبيهة بما جرى الاتفاق عليه في العام 1993 بين «منظمة التحرير الفلسطينية» وإسرائيل، وبإشراف أميركي وأوروبي، بأنّ «التفاوض هو الأسلوب الوحيد لحلّ النزاعات» وبأن «لا لاستخدام العنف المسلّح». وقد جرى عملياً تبنّي هاتين المسألتين من قبل الحكومات العربية في رؤيتها للصراع مع إسرائيل، حيث جرت المفاوضات العربية-الإسرائيلية طيلة حقبة التسعينات، كما حصلت أنواع مختلفة من أشكال التطبيع العربي معها رغم عدم التزامها لأكثر من 20 عاماً بالاتّفاقات مع الفلسطينيين. ثمّ جرى إعلان «المبادرة العربية للسلام» في العام 2002، ولم تقبل بها إسرائيل، ولم تُمارس الحكومات العربية حرباً عليها أو ضغوطاتٍ تدفع لتنفيذها أو حتّى دعوة الفلسطينيين للتخلّي عن «اتفاق أوسلو» ودعمهم مالياً وعسكرياً لخوض مقاومة مسلحة تُحرّر الأرض (والقدس الشريف) وتُحقّق للشعب الفلسطيني مطلبه المشروع بإقامة دولته المستقلّة.
فحيث تتوجّب المقاومة المسلّحة ضدّ عدوٍّ إسرائيليٍّ ظالمٍ محتل، يتمّ تبني خيار التفاوض والتخلّي عن أسلوب الكفاح المسلح. وحيث يجب إسقاط أسلوب العنف المسلّح بين أبناء الوطن الواحد ودعوتهم للتفاوض وللحوار الوطني الجاد، يحصل الآن التشجيع الخارجي على إشعال حروبٍ أهلية عربية. وحيث يجب التعامل مع الملف الفلسطيني في «مجلس الأمن الدولي» يتمّ إخراج الملف منه، رغم أنّه بالأساس من مسؤولية الأمم المتحدة بعد اعترافها بدولة إسرائيل والتسبّب في تشريد الفلسطينيين من وطنهم. وحيث لا ينفع وطنياً ولا عربياً تدويل الأزمات الداخلية لأيِّ بلدٍ عربي، تندفع قضايا عربية إلى مرجعية «الأمم المتحدة»!!.
Leave a Reply