بقلم: زعيم الطائي
في كتاباته ترتسم البسمةُ على شفاهنا ممتزجةً بالدموع، تختلط شخصياته وأمكنته التي يخلقها بالسحر والحقيقة وعنفوان الخيال، سعداء أننا عشنا في العصر الذي خُلق فيه، كلنا نتذكر روايته العظيمة التي يحرّك أحداثَها غجريٌّ مجنون اسمه «ملكيادس»، و«أورسولا» المرأة العمياء التي تقود أرسنة سبعة أجيال من عائلة غريبة الأطوار، وجنرال خسر كلَّ المعارك التي خاضها في حياته، وأحداث تجري في هيئة دوائر تكرّر نفسها لعدّة أجيال بين أطفال يولدون بذيول الخنازير لتلتهمهم الديدان، مجازر بلا ذكرى، وعشّاق تتبعهم الفراشات، وصبايا سرقتهن الرياح، ومدينة مرايا انتظرت زوالَها لمئةِ عام كاملة بعد هبوب العواصف، ذهب ماركيز وبقيت المدينة التي أنشأتها طقوسُ الحكاية، خلق ماركيز أسطورة «ماكوندو» مدينة الخيال، وخلقت «ماكوندو» أسطورةً اسمها ماركيز لن تتكرّر في متاهات الرواية العالمية العجيبة. حطّت أخيراً سفينة ماركيز الخيالية على الساحل الأنديزي وهللت الجموع المنتظرة يتصدرهم سرفانتس وتولستوي وبورخس مباركة مقدمه في أول خطواته عند سلم الخلود، سيحل ضيفاً مكرماً في ليلته الأولى لدى ربّات الحسن وجمال الكتابة وكمال الأبداع.
عاش ماركيز حياةً إبداعية بحق، طيلة 87 عاماً قضّاها بممارسة الحياة والكتابة دون تلكّؤ، فمنذ أن ولد في مدينة أركتاكا الكولومبية، قرّر أن ينتهج حرفةَ الصحافة والكتابة، فبدأ بالقراءة والإطّلاع على الأدب العالمي بالإصافة إلى اشتغاله في الصحافة، فتأثّر بالكاتب الألماني كافكا والأميركي ويليام فولكنر، حيث حاكاه باختلاق المدينة الوهميّة التي ليست لها في الواقع مكاناً، وكانت ماكوندو التي جاورت مخيلتها «يوكنا باتاوفا» عند فولكنر المدينة التي عاش فيها سارتوريس الأب، وجوزيه أركاديو في «مئة عام من العزلة»، فحققت المدينة المختلقة شهرةً لاتدانيها شهرةُ المدن الحقيقية، حتّى جعلت بلدية أركتاكا مكاناً حقيقياً يؤثر أن يزوره السوّاح الذين لم يصدقوا أنَّ المدينة ليس لها من وجود، رغم أنّ ماركيز قد ذكر في السطور الأخيرة من رائعته «مئة عام من العزلة» أنّ المدينة قد اختفت وتلاشت من الوجود بعد أن يتم العقيد أورنيليا بوينديا فكَّ آخر الرموز السنسكريتية في مخطوطة التنبؤات التي تركها الغجري ملكيادس، والذي تعوّد الظهور في المدينة بين حقبةٍ وأخرى، مصاحباً أفرادَ العائلة الغريبي الأطوار، والذي بنهايته كتب على المدينة الإندثار وانقطاع نسل العائلة التي عاشت مئة عام قضتها في مدينة المرايا الخيالية، لمدة سبعة أجيال متعاقبة، وأمٌّ واحدة هي أورسولا العمياء التي شهدت دمارَ المدينة وانقطاع شأفة العائلة.
كان ماركيز مولعاً بالأحاجي والألغاز حتّى أنّه قد تركَ عدداً لايُحصى من الرموز والأخطاء والهذيانات الجميلة والسرقات التي اعترفَ بها كتناص مشروع في روايته التي ترجمت إلى كافة لغات العالم، وحين طلب الممثل أنتوني كوين أن يسمح ماركيز بإخراج الرواية، لم يأذن له، عسى أن يقوم الممثل العالمي بأداء دور العقيد أورنيليا الذي خرج من منصة الإعدام فحكم عليه مثل عمته بصناعة السمكات الذهبية، والتي يعيد إذابتها ليصنعها من جديد كحال عمته «أمارانتا» التي قضت حياتها بتطريز كفنها الذي ما إن تتوقف عن نسجه، حتّى تموت كما في الأسطورة اليونانية، ففاتتنا فرصة تمثيل الممثّل القدير لأحد أدوارها.
وحينما دافع ماركيز عن تهويماته الخيالية تلك، أسند كلَّ حدثٍ غريب في الرواية إلى واقعٍ عاشه يوماً في حياته، مثل مجزرة عمال الموز، والمطر التوراتي الذي يستمر نزوله على المدينة مصحوباً بالضفادع لمدة ست سنوات وستة أشهر وستة أيام، ونزول الحيوانات وخيول وأفيال السيرك إلى البحر، بعد أن غرقت السفية على الشاطيء، وطيران ريميدوس الجميلة في السماء، والأطفال الذين ولدوا كسفاح المحارم حسب النبوءة فالتهمتهم الديدان. حينما كتب ماركيز روايته، لم يكن يملك سوى خاتم الزواج من امرأته «مرسيدس» الذي باعاه من أجل إرسال المخطوطة إلى أحد الناشرين في غواتيمالا، والتي أرسلا القسمَ الأوّل منها في وقت لم يكونا يملكان ثمن أجرة البريد، وبعد بيعهما الخاتم وإرسال الجزء الثاني ظهرَ أنّهما أخطئا وأرسلا القسمَ الثاني بدلاً من الأوّل.
من الذين تأثر بهم ماركيز كثيراً هو الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ، فذكر في إحدى حواراته أنّ زوجته قد أهدت له في أحد أعياد ميلاده رواية محفوظ الثلاثية، وقال كلمةً أسرعَ فيها إلى إنصافه، قبل أن يلتفتَ إليه العالم وقتها: «قرأتُ ثلاثية نجيب محفوظ وعجبتُ كيف لم ينل هذا العبقريّ جائزة «نوبل» لحدِّ الآن»، وقد استفادَ ماركيز من الرواية في تطوير شخصية «فلورنتو أريثا» في «الحبّ في زمن الكوليرا»، التي استقاها من شخصية كمال أحمد عبد الجواد الفتى الخجول، الذي يكتفي بإرسال الرسائل المكتوبة إلى حبيبته، دون أن يجرؤ على لمسها أو مخاطبتها، ومراقبة الحبيبة ليلة زواجها في مكانٍ من الخلاء كما عند محفوظ، والمقبرة لدى ماركيز.
هناك روايتان تأثّر ماركيز بهما، وكتب رؤيته المغايرة بتشكيلته الفذة فأضاف بهما إلى عالم الكتابة عملين كبيرين هما «السيد الرئيس» لأستورياس، والرواية التي كتبها بعنوان «خريف البطريك» والثانية «منزل الجميلات النائمات» للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، والتي أخرج منها «غانياتي الجميلات».
في روايته الحبّ في زمن الكوليرا، يتحدّث ماركيز عن الفتى الخجول «فلورينتينو أريثا» الذي يقع في حبّ الفتاة المتزوجة فيرمينا داثا والتي ينتظرها دون أن يفرغ له صبر خمسة وخمسين عاماً وخمسة أشهر وخمسة أيام. أمّا في «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، فهي عن مصائر الثوّار الذين قاتلوا مع العقيد أورنيليل بوينديا في الحرب الأهلية، والذين انتظروا موافقة الحصول على معاشات تقيهم عوز الشيخوخة طوالَ حياتهم التي قضوها في الإنتظار بلا طائل ودون أن يظفروا بشيء. بوفاة هذا العملاق العظيم مُنِيَ فنُّ الرواية بخسارة كبيرة، ولكن فنّ ماركيز ورواياته الكبيرة ستبقى خالدةً إلى الأبد.
Leave a Reply