بيروت – كمال ذبيان
عندما انسحب نواب «كتلة الوفاء للمقاومة» و«تكتل التغيير والإصلاح» وكتلتي «البعث» و«السوري القومي الاجتماعي»، مع انتهاء الدورة الأولى من جلسة إنتخاب رئيس الجمهورية، والنتائج التي ظهرت بعدم نيل أي من المرشحين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع والنائب هنري حلو ثلثي أعضاء مجلس النواب (86 صوتاً)، ظهر أن نصاب الدورة الثانية لن يتأمّن، ولا جلسة بعد الدورة الأولى، إلا إذا حصل توافق على انتخـاب رئيـس جديد للجمهورية، وبات الشعار، لن تعقد جلسة لمرشحين، بل لإنتخاب رئيس.
وهذا ما حصل في الجلسة الثانية لإنتخاب رئيس مجلس النواب نبيه بري، إذ لم يتأمن النصاب القانوني لها ولم تعقد وأُرجئت الى 7 أيار الحالي، لأن نتائجها لو عُقدت بحضور الثلثين، لن تكون أفضل من سابقتها، لكن قوى «8 آذار»، تخوّفوا من أن يحصل إتفاق بين «14 آذار» والوسطيين، لاسيما منهم النائب وليد جنبلاط على مرشحه النائب حلو، أو أي مرشح يميل الى الوسط من «14 آذار» نفسها كالنائب روبير غانم أو مرشح آخر، ويحصل إنتخابه، فكان عدم تأمين النصاب القانوني لتفادي حصول هذا الإختراق، الذي لن يلجأ إليه رئيس «جبهة النضال الوطني» لتمسكه بمرشح توافقي، أو بما يسميه رئيس إدارة أزمة، متفق عليه من أغلبية الكتل النيابية، لأن وصول مرشح من «8» أو «14 آذار» صعب المنال. فترشيح جعجع إستمرّ من قبل «14 آذار»، إلا أن طريق وصوله الى القصر الجمهوري مقطوعة بعدم تأمين نصاب الثلثين لإنعقاد جلسة الإنتخاب، كما هي غير سالكة أيضاً بسبب عدم تمكنه من حصوله على الأكثرية النيابية المطلقة أي 65 نائباً (النصف زائد واحد)، لإمتناع الكتلة الوسطية عن تأييده.
أما العماد ميشال عون الذي سلك طريق الوفاق مع «تيار المستقبل» لنيل تأييده لرئاسة الجمهورية، بعد أن حصل على إجازة مرور من حلفائه في «8 آذار»، وترك حرية التحرك له في إتصالاته ولقاءاته الداخلية والخارجية لتحقيق أهدافه الرئاسية، فإنه نجح في إعادة تعزيز الثقة مع رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، التي توترت العلاقات وانقطعت في مرحلة بينهما، وقد فتحا معارك سياسية وإعلامية، وصدور مواقف عالية السقوف مثل الكتاب الذي أصدره «التيار الوطني الحر» بعنوان «الإبراء المستحيل» الذي يكشف فيه عن الفساد والهدر في مرحلة حكم «الحريرية السياسية» وسياستها الاقتصادية والاجتماعية والإعمارية منذ العام 1992، والكلفة التي تكبدها اللبنانيون، وما تتحمله الخزينة من عبء في الديون وخدماتها، الى الصفقات التي حصلت في مرافق الإتصالات الخليوية ورفع النفايات و«السوليدير».
وفي المقابل فتح «تيار المستقبل» أيضاً، ملفات لعون في المرحلة التي كان فيها رئيساً لحكومة عسكرية، حين شن حربي «التحرير» و«الإلغاء»، ورفض إتفاق الطائف.
لقد أوقف عون الحرب التي فتحها على الحريرية السياسية و«تيارها المستقبل» قبل سنة من الإنتخابات الرئاسية، وسلك طريق الحوار معها، كما انفتح على النائب وليد جنبلاط، وبدأ يحضر اللقاءات المسيحية تحت عباءة البطريرك الراعي وسقف بكركي، ويقدم نفسه على أنه رجل الوفاق، وبدأ يبتعد عن «8 آذار» ليميّز نفسه عنها، وأنه حليفها في مواقف سياسية، وبعيداً عنها في أخرى، فوقف ضد التمديد لمجلس النواب الذي أيّده حلفاؤه، ولم يوافق على التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي، وحاول التمايز عن مشاركة «حزب الله» القتال في سوريا، واستقبل السفير السعودي في لبنان علي عوّاض العسيري الذي بقي على تواصل مع الوزير جبران باسيل، حيث أثمر الإنفتاح العوني تشكيل حكومة تمام سلام، وتمرير التعيينات الإدارية والقضائية والأمنية، وأرجأ البت بسلسلة الرتب والرواتب لموظفي الإدارة العامة والمعلمين، وتراجع التراشق الإعلامي، إلا أن كل ذلك لم يبلغ مرحلة قبول الحريري بعون مرشحاً لرئاسة الجمهورية وتأييده، إذ هو أعلن تأييد ترشيح جعجع وانتخابه رئيساً للجمهورية، وهو ما أعطى تفسيراً أنه منسجم مع تحالفاته في «14 آذار» ويريد الحفاظ على وحدة هذا التجمع السياسي الذي ليس من السهل فرطه لصالح طرف سياسي لا يلتقي معه في أكثر من قضية، تبدأ بسلاح «حزب الله» ومشاركته في القتال الى جانب النظام في سوريا، وإن كان الحريري قام بربط نزاع مع الحزب حول هاتين المسألتين وقبل المشاركة معه في حكومة واحدة، تلبية لقرار دولي-إقليمي، بالحفاظ على الإستقرار في لبنان، والنأي به عن الصراع في سوريا، وهذا ما حصل.
وستبقى الإنتخابات الرئاسية معلقة، حتى يصدر القرار السعودي للحريري بتأييد عون أو الإستمرار بالإقتراع لجعجع، او تاييد غيرهما وهذا يتطلّب إنجلاء صورة التطورات في المنطقة، وأبرزها الإنتخابات التشريعية في العراق التي تهم السعودية كثيراً، لما لها من تأثير على المملكة، كما على دول الجوار، إذ تدخل بلاد الرافدين، في دائرة النفوذ الإيراني، وأن السعودية ومعها دول خليجية وأخرى عربية تحاول إخراجها منه، ولم تفلح في الدورة السابقة، بالرغم من حيازة لائحة إياد علاوي المدعوم من الأكثرية السنّيّة على 92 نائباً في مقابل 90 نائباً للائحة نوري المالكي، وكانت النتائج تؤهله لترؤس الحكومة، لكن القرار الأميركي-الإيراني، كان لصالح بقاء المالكي، وهذا ما انعكس على الوضع اللبناني بإسقاط حكومة سعد الحريري، وهو ما اعتبرته السعودية إسقاطاً لدورها في المشرق العربي يبدأ من العراق الى سوريا فلبنان وفلسطين، وهي تنتظر ما ستفسر عنه الإنتخابات العراقية، لتقرّر في لبنان، إذ أن الكثير من المتابعين من أصحاب القرار اللبنانيين باتوا يربطون انتخابات رئاسة الجمهورية بالتطورات في المنطقة والعالم من العراق الى الإنتخابات الرئاسية المصرية، ثمّ الإتفاق الغربي-الإيراني حول البرنامج النووي الإيراني المنتظر في منتصف تموز، وقبل ذلك الإنتخابات الرئاسية في سوريا في 3 حزيران (يونيو)، الى ما قد يحصل في أوكرانيا، ومراقبة ما يجري في السعودية من ترتيب للبيت الداخلي.
فأمام هذا المشهد في الإستحقاق الرئاسي، فإن كلاً من جعجع وعون لا يملكان حظوظاً في الوصول الى رئاسة الجمهورية، وفق المعطيات المتوفرة، إلا في حالة رئيس «التيار الوطني الحر» الذي ينتظر قراراً خارجياً، يتمثّل في اقتناع كل من السعودية وأميركا وفرنسا وبالتوافق مع إيران، على أنه مرشح وفاقي يمكنه مع الحريري أن يحافظا على الإستقرار في لبنان، ويؤمنا إنتقالاً هادئاً للسلطة وفق نموذج حكومة تمام سلام، وخارج هذا التوافق الدولي- الإقليمي المستند الى قناعات من أطراف سياسية لبنانية بعون، فإن الفراغ في رئاسة الجمهورية يتقدم على ما عداه، وتصبح الإنتخابات مرتبطة بأزمات المنطقة والعالم، وهذا ما قد يُدخل لبنان في نفق من جديد، في ظل حكومة قد تنفجر التناقضات داخلها، وقد يتجه الوضع السياسي والحكومي الى إنفجار، وهو ما يخشى منه، فيضع رئاسة الجمهورية على نار التسوية الدولية-الإقليمية الحامية، كما حصل في العام 2008، وبعد سبعة أشهر على الشغور في رئاسة الجمهورية مع انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، حيث حصلت أحداث 7 أيار من ذلك العام، فأنتجت إتفاق الدوحة الذي أتى بقائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.
ومع عدم وصول «رئيس قوي» من المرشحين المسيحيين الأقطاب، فإن بكركي لا تمانع بمرشح، يُجمع عليه اللبنانيون، وهي خطوة تراجعية لصالح أن لا يحصل شغور في رئاسة الجمهورية، حيث يعمل البطريرك الراعي على تفاديه، وهو زار الرئيس بري في عين التينة وأطلق من هناك، وبعد إنجاز الدورة الأولى من الإنتخابات، وما أسفرت عنها، وعدم امتلاك أي مرشح صاحب تمثيل مسيحي، الأصوات اللازمة لإنتخابه، فإنه طرح مواصفات لرئيس يجمع، أي لشخص توافقي، وهي رسالة وصلت الى أقطاب الموارنة أن يتخلوا عن تطلعهم الى قصر بعبدا، لأن الطريق إليه غير سالكة لهم، بل لمرشح يشبه المرحلة، والتي بحاجة الى رئيس في تاريخه نظافة الكف، وعدم التلوث بالدم، وصاحب كفاءة وله علاقات داخلية وخارجية، إذ تنطبق مواصفاته هذه على شخصيات مثل دميانوس قطار، زياد بارود، مروان شربل، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وقائد الجيش جان قهوجي، حيث لا يمانع البطريرك من تعديل الدستور لهما.
فالترجيحات والاحتمالات قائمة، كما أن المهلة الدستورية لإنتخاب رئيس جديد، وإن بدأت تضيق، إلا أن الربع الساعة الأخير، قد تخرج بمرشح قد لا يكون من الأسماء المتداولة أو خارجها، وقد بدأت تظهر ملامح حركة دولية-إقليمية من أجل إنجاز الإستحقاق الرئاسي، ولكن على اللبنانيين أن يساعدوا أنفسهم بصناعة رئيسهم، حتى ولو استعانوا بصديق على غرار تاريخ الإنتخابات الرئاسية التي كانت دائماً مقرونة أو مرتبطة بالفوضى أو أحداث أمنية ودراماتيكية، منذ أول إنتخابات حصلت عام 1943، فدخل رئيس الجمهورية السجن في قلعة راشيا، مع أركان الحكم لرفضهم الإنتداب الفرنسي، ثمّ في إسقاطه عام 1952 بثورة بيضاء، ليصل فؤاد شهاب بثورة حمراء، وبعده شارل حلو بأزمات امنية وسياسية واقتصادية، لينتهي عهده بصدام لبناني- فلسطيني، وانتخاب سليمان فرنجية الذي انتصف عهده ولبنان في خضم حرب أهلية، لم يوقفها عهد الرئيس الياس سركيس الذي خلفه بشير الجميّل ثم شقيقه أمين، والاحتلال الإسرائيلي جاثم على لبنان، ليخرج الجميّل من الرئاسة وقد سلمها الى حكومة عسكرية وشغور فيها، وعامين من الحروب ليبدأ تطبيق إتفاق الطائف بإغتيال رئيسه رينيه معوض بعد أقل من شهر على إنتخابه، ليخلفه الياس الهراوي بحرب على تمرد عون، وينتهي بالتمديد له، ليخلفه إميل لحود بإشعال خلاف داخلي على إنتخابه، واغتيال رفيق الحريري بعد التمديد له، ودخول لبنان في أزمات ومعارك، لينتهي عهده بشغور وحكومة غير شرعية ودستورية يرأسها فؤاد السنيورة، لتسقط في الشارع وينتخب سليمان بتسوية، وقد يسلّم السلطة الى الفراغ وربما الفوضى.
Leave a Reply