بقلم: كمال العبدلي
مساء السبت السادس والعشرين من نيسان (أبريل) 2014 أضيئت قاعةُ «المجمع الإسلامي الثقافي» في شرق ديربورن، بمصابيحِ الكهرباء وأنوارِ الوجوه وسطوعِ الإحتفاءِ بالشِعر، حيث مرّت الإحتفائيّةُ بكامل الحرص وجميل الوفاء وبلاغةِ الومض، على زمن الحفاوة الإلهيّة المحمّديّة يوم تشرّفت الأرضُ الطاهرة الممتدّةُ من سفوحِ جبل عامل وقِمّتهِ حتّى جنان الأرباض الخضيلةِ بالخضرةِ والتين والزيتون والأعناب، تنساب تحت أوراقِها المتشابكة الظليلة التي تراقصُها النسائمُ العِذاب، رقرقةُ الجداولِ والسواقي الضاحكة الضاجّةِ بالماءِ الزُلال، جنان بنت جبيل وتبنين، يوم تشرّفت تلك الأرض، بموطيء قدمَي الصحابيّ الجليل أبي ذرّ الغفاريّ، حيث أخصبَ ثراها ببذورِ الإيمان التي جاء بها من معادن وبيادر عنوان الإيمان، وأينعتْ في العقولِ والأفئدة حصانَةً واطمئناناً على مرّ القرون وتعاقبِ الأجيال، مروراً بأبرز المشاهد الحضاريّة التي عاشها رموزُها منتصفَ الخمسيات من التاريخ المعاصر والأحدث، كما ستأتي الإشارةُ إلى إيضاحِها.
اشتملت الإحتفائيّةُ على محاور متداخلة ومشترَكة، حصيلتها الإحتفاء بالشِعر، كانت أشبه بردِّ الإعتبار إليه في زمنٍ ما عاد يُلتفت إلى بريقِهِ وتأثيره في تنمية الذائقة الأدبيّة لدى الناطقين بلغتِه، إزاء هيمنة الرؤيا المادّيّة للحياة، وقد يُخطيءُ البعض حين يتصوّر بأنّ الإنشِغالاتِ الحياتيّة في المُغتَرَب، تُلهي وربّما تُغني عن الإنضمام على الهويّةِ الأمّ فيما يتعلّق بآدابِها وتُراثِها، على العكس من الحصيلة الماثلة التي تبرهن بأنّ تمسُّكَ المغترِب بتراثِهِ يمثّلُ الوجهَ الحقيقيّ والمُشرِق في حياته، وبين أيدينا أمثولاتٌ رائعة أكّدَها أدبُ المهجر ومنجزُهُ الخلّاق، المَحاوِرُ تلك، قلّما تجتمع مرّةً واحدة في تجانس المؤالَفة وحسن الملاءَمة وتشابه المعدن ونفاسة الجوهر، حيث الإحتفاء بالمربّي الشاعر يحيى شامي، تزامناً مع مناسبة صدور ديوان الشاعر الشيخ يوسف بري، الديوان الذي تكفّل المجمع بطبعِهِ، في مبادرَةٍ تستحقُّ التوقّفَ عندَها بكلّ الثناءِ والإعجابِ والتقدير.
استُهِلَّ الحفل بترحيب أمين عام المجمع بالحضور، ثمّ دعا إلى المنصّة عريفَ الحفل الأستاذ المربّي تحسين بزي، الذي حيّا بدورِهِ في مقدّمةِ كلمتِهِ، الشاعرَ المحتفى به، وجمهورَ الحاضرين، نقتطف منها:
(استاذي..سألوني أن أقدّمَكَ..تهيّبتُ يا صاحبي، فلقد كنتَ أستاذي في ماضي أيّامٍ سحيقة، أتذكّرُها في مدرسةِ الأستاذ سعد رحمه الله، في بلدتنا بنت جبيل أواخر خمسينات القرن الماضي، وما زلتَ أستاذي حتّى اليوم ويملؤني هذا فخراً، قلتُ تهيّبتُ.. كيف أقدّمكَ؟ وعمّ أتحدّثُ عن مبدعٍ زادت مؤلّفاتُهُ عن التسعين؟)
ولم يفت الأستاذ المربّي أن يستشهدَ بأحد أبيات الشيخ المُحتفى بصدورِ ديوانِهِ الذي أشرف على تبويبِهِ ووضع مقدِّمتَه الشاعر شامي، من قصيدةٍ طافحةٍ بالحنين إلى مرابع الحضنِ الأوّل بلدته (تبنين) التي ينشدُ في مطلعها يخاطب بها صديقَه الشاعر الشيخ ابراهيم بري:
إليكَ الشِعرُ أبعثُهُ كِتابا فهاتِ مع البريدِ ليَ الجوابا
وعن ديترويتَ لا تسألْ فإنّي على رغميْ أطلْتُ بها الغِيابا
غريب الدار تؤلِمُهُ دِيارٌ ويهواها وإنْ كانــــتْ خرابـا
أليْسَتْ خيمةُ التيناتِ عندي تُعادلُ ألفَ ناطحاتٍ سَحابا؟
أليسَ الكرْمُ تغمرُهُ الدواليْ وفيه الطلُّ ينسـكِبُ انسِكـابا
بأجمل منظرٍ من كلِّ فنٍّ؟ فجلُّ فنونِهم صُنِعَتْ كِذابا
القصيدة الجوابيّة على القصيدةٍ التي بعثَها لهُ صديقُه الشاعرُ المذكور والتي يستهلّها بجواهرِ هذه الأبيات:
لا تحسبونا هجرْنا الشِعرَ والأدَبا
فالكأسُ من خمرةِ الأحبابِ ما نضَبا
وكيفَ نقطعُ من أوتارِنا وتَراً
يهدهِدُ القلبَ إنْ غنّى وإنْ ضرَبا
أنتُمْ حديثُ اللياليْ في مجالِسِنا
وذكرُكُمْ خمرةٌ تصفو لمَنْ شربا
واللهِ سيرتُكُمْ في الحيِّ ما انقطَعَتْ
عنّا ولا وجهُكُمْ عن أفْقِنا غربا
ثمّ قالَ مُنهياً كلمتَه بإشارته إلى أستاذِهِ الشاعرِ المُحتَفى به: «أيّها الأستاذ الموسوعيّ، والشاعر الذي نذرَ عقلَه وقلبَه ولسانَه لآلِ بيتِ رسولِ الله (ص) كلّنا شوقٌ لكلماتِكَ وخزينِ أفكارِكَ.. المنبرُ لكَ فتفضّل».
ابتدر الشاعرُ شامي باستعادةِ دليلٍ على الإرث الأدبيّ لجبل عامل وبنت جبيل وتبنين، حيث المرابع المشترَكة، ننقل نصّها بتصرُّفٍ طفيف، عن مقدّمتِهِ لديوان «نسيم الخَلَّة»:
«ثلاثةً كنّا في مدرسة بنت جبيل الرسميّة العالية، زملاءَ وأتراباً، من قبلِ أنْ نشُبَّ فتتفرَّقَ بنا السُبُل، أمّا الأوّل، وهو نبيه برّي، فآثرَ السياسةَ وعالَمَها الواسع ليتبوَّأ بنباهتِهِ، ولا يزال، أحدَ أرفعِ المناصب في الدولةِ اللبنانيّة، وأمّا الثاني، وهو نسيب فوّاز، فآثَرَ الهجرةَ إلى الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّة، فهو اليومَ علَمٌ من أعلامِ التجارةِ والإقتصادِ والأعمال، وأمّا ثالث الثلاثة، يعني أنا، فقد أدركتُ أو قلْ أدركَتْني حِرفةُ الأدب أو الشِعر، سمِّها ما شئتَ، فهُما سِيّان.
كُنّا نتطارحُ محفوظاتِ الشِعر العربيِّ الموزون، حديثِهِ وقديمِهِ، مِنّي بيت، ومن كلٍّ من زميلَيَّ بيتٌ يبدأ بحرف القافية التي انتهى إليها البيتُ السابق، وهكذا دواليك، حتّى ينقطع النفَس، وإنْ تعجَبْ فاعجَبْ لقصوري الفاضح مرّاتٍ عدّة، أنا البنتجبيليّ، في مناجَزَةِ أو منافسَةِ ذيْنَكَ الفارسَيْن التبنينِيَّيْن». ثمّ أسمعَنا قصيدتَهُ العموديّة التي أثنى فيها على موهبة ومكانة صاحب الديوان المحتَفى به، والذي غابَ عن المشهد حيث المرض، حالَ بينهُ وبين إمكانيّة التمتّع بلحظات الإلتقاء بهذا الحشدِ الأليف، فدعا له الجميع بالشِفاءِ العاجل
ندرج هنا نصَّ القصيدة:
إلى الشاعر الشيخ يوسف بري، بمناسبة توقيع ديوانه:
خُذْها مُسوَّمَةَ البُرودِ أبيات شعرٍ من قَصيدِ
هي كالربيعِ الطَلْقِ ترفلُ بــالأزاهِـرِ والــورودِ
حملَتْ إليكَ تحيّةً من شاعرٍ صَبٍّ عَميدِ
يهوى سَماعَ الشِعرِ في النادي ويطربُ للنشيدِ
ويهزُّهُ النغمُ الشَرودُ يهشُّ للكلِمِ النَضيدِ
فَبِحَقِّ من حلّاكَ بالأخلاقِ والرأيِ السديدِ
وحَباكَ بالعمرِ المديدِ وإنّهُ لَإلى مزيدِ
ياشيخُ يوسفُ ياسليلَ الأكرمين من الجدودِ
بُشراكَ من بعد انتظارٍ طالَ بالطفلِ الوَليدِ
ديوان شــِــعرٍ ضــمَّ أروعَ ما تناثرَ من تَليدِ
أو من طريفِ الشعرِ في الماضي القريبِ أو البَعيدِ
غُرَراً حِســاناً، مالقلائدُ، ما النفيسُ من العُقودِ؟
بإزاءِ ما ملَكَتْ يمينُكَ ليس إلّا، مِن رصيدِ
شِعراً تُخلِّدهُ العصورُ يُخَطُّ في سِفْرِ الخُلودِ
ويَكونُ نِعْمَ الذُخْرِ بَعدكَ للحفيدةِ والحفيدِ
وهنا تقدّمَ ابنُ الشاعر يوسف ليُسدي تحيّةَ الشكرِ والعرفان من وراءِ المنصّة.
ثمّ عادَ عريفُ الحفل ليقدّم راعي المجمع الأمين الشيخ عبداللطيف بري حيث قال في كلمة التقديم:
(الإخوة والأخوات..الأهلُ الكِرام..مؤسِّسُ هذا الصرح وإمامُهُ العامل في مسالِكِ الخيرِ والرحمة، ونهضةِ الإسلام، الشيخ العامليّ عبداللطيف برّي فليتفضّل ببركةِ الصلاة على محمّد وآلِ بيت محمّد)
وبمهابتِهِ المعهودة، أوضحَ وأشار المرجعُ الدينيّ إلى أهمّيّةِ رعايةِ الثقافةِ والأدب والعلم برموزِها، حيث قال إنّ العالِم والأديب والشاعر وأصحاب الإختصاصات العلميّة المختلِفة، كلّ واحدٍ منهم يشكّلُ أمّةً، وضربَ مثالاً حيّاً بالمربّي والشاعر الأديب المُحتَفى به، لنشهدَ عبرَ كلمتِهِ القيِّمة اجتماع ثلاثةِ أجيالٍ جملةً واحدة تحت سقفِ القاعة، إذ كان عريفُ الحفل أحدَ تلامذة ذلك المربّي، فيما رأينا العديدَ من الشخصيّات الحاضرة كانوا تلامذةً له، كما نوّه الشيخُ المرجِع إلى دورِ رموز الأمم في صنعِ تاريخِها وإثراء حضارتِها وتقديمها إلى العالَم مثلما الفيلسوف جان بول سارتر في الأمّة الفرنسيّة، والعديد من العلماء والأطبّاء والمفكِّرين في حياة الأممِ الأخرى في توليفةِ أفكارٍ سنفردُ لها بحثاً مستقِلّاً في عددٍ لاحق إن شاء الله.
وفي نهاية الإحتفال، تمّ توزيع نُسَخِ الديوان (نسيم الخَلَّة) على الحاضرين، ليُنهى بالتقاطِ الصورِ التذكاريّة.
Leave a Reply