بيروت – كمال ذبيان
ثلاث جلسات لإنتخاب رئيس للجمهورية، لم يكتمل فيها النصاب القانوني، بسبب غياب التوافق الداخلي على إسم مرشح يمكنه أن يشكّل قاسماً مشتركاً بين مكونات المجتمع السياسي اللبناني، بفعل الإنقسام الحاد بين قوى «8» و«14 آذار»، وعدم استطاعة أي منهما على تسويق مرشحه، رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي يعبّر عن مشروع «14 آذار» السياسي، القائم على رفض سلاح غير سلاح الدولة التي توازيها «الدويلة» التي يقضمها «حزب الله» وفق مواقف قوى «14 آذار».
كما أن «8 آذار» التي ترشح العماد ميشال عون، لم تتمكن من أن تقدمه كمرشح وفاقي، بعد أن سهّلت له، التحاور مع «تيار المستقبل» لتكوين سلطة جديدة، تتقدم فيها الشراكة بين المكونات الأساسية الممثلة لطوائفها ومذاهبها، إذ يهدف رئيس «التيار الوطني الحر» من حواره مع رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري، على إقامة حكم الأقوياء للممثلين الحقيقيين لطوائفهم في تركيبة النظام السياسي، إلا أن مشروعه هذا لقي آذاناً صاغية عند الحريري، لكنه لم يلقَ التنفيذ، وقرّر دعم ترشيح جعجع بإسم «14 آذار» الذي تريد أن تنهي وجود سلاح آخر غير شرعي الى جانب سلاح الشرعية، وإسقاط صفة المقاومة عن سلاح «حزب الله»، وعدم إضفاء الشرعية عليه، لا بل إتهامه بأنه ينفّذ مشروعاً خارجياً لإيران التي تسعى الى توسيع نفوذها الإقليمي، وإن «14 آذار» بما تمثّل من إرتباطات مع مشروع آخر متحالف مع دول عربية لاسيما الخليجية منها وتحديداً السعودية، حيث يروّج منظّرو «14 آذار» أن مشروعهم عربي بمواجهة إيران الفارسية، وليس ضد العدو الإسرائيلي الذي تدعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية المقاومة ضده، وهو ما يبرّر إعلان «8 آذار» أنها في المحور المقاوم لإسرائيل الممتد من إيران الى سوريا ولبنان وفلسطين، بمواجهة مشروع آخر يعمل على إقامة سلام مع الكيان الصهيوني والتنازل عن الأراضي المحتلة، والتطبيع معه.
هذان المشروعان يتصارعان في لبنان، فكانا مع بداية القرن العشرين، وقبل قرن على تأسيس الكيان اللبناني بقرار من الجنرال غورو الذي أنشأ عام 1920 «دولة لبنان الكبير» لإرضاء الموارنة خصوصاً في لبنان، والمسيحيين عموماً، وكان فريق آخر يناهضه ويمثّل أكثرية مسلمة تنزع نحو الوحدة السورية، التي كانت مطروحة من ضمن مشروع توحيد «سوريا الكبرى» التي طرحها المؤتمر السوري الذي جمع كل القادة السياسيين والمفكرين من كل الطوائف والمذاهب في لبنان وسوريا وفلسطين، والتي كانت «الثورة السورية الكبرى» طليعة المدافعين والمناضلين لإستعادة هذه الوحدة بعد تحرير «بلاد الشام» من الأتراك.
فمنذ إنشاء الكيان اللبناني قبل حوالي قرن، والصراع على هويته الوطنية والقومية ونظامه السياسي قائمٌ، فبين بقاء لبنان بحدود «جبل لبنان» والحكم الذاتي في زمن المتصرفية، وبالتالي تصغيره، أو تكبيره الى حدود أوسع تشمل بلاد الشام من ضمن دولة قومية، الى أن جاء القرار الفرنسي بضم الأقضية الأربعة الى جبل لبنان، وتكوين دولته، التي قامت على نظام طائفي مركب مستمد ليصدر في دستور العام 1926، ويعدّل في العام 1943، مع إعلان إستقلال لبنان، إلا أنه أورد في المادة 95 منه، أن الطائفية فيه مؤقتة وتعتمد عليها في توزيع السلطات، واعتماد عُرف على أن تكون رئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة، ورئاسة مجلس الوزراء للسّنّة، واعتمد في التوزيع تركيباً عددياً هو ستة مقاعد للمسيحيين مقابل خمسة للمسلمين، الى أن أصبح فيما بعد «6 و6 مكرّر»، مع اعتماد المناصفة بين المسيحيين والمسلمين التي ترسخت في الدستور، مع إتفاق الطائف.
ففي لبنان أزمة جمهورية لا أزمة رئيس، هذه الجمهورية التي في كل فترة زمنية تتعرّض لإهتزاز سياسي ثمّ إنفجار أمني، مع كل تحوّل يجري في المنطقة، إذ يتأثر لبنان بما يحصل في محيطه من تطورات جيوسياسية، فتصيب نظامه ووحدة شعبه، وتطرح له مشاريع فدرالية، أو تقسيمية، وتتعالى دعوات الإستنجاد بالخارج، وفق الإرتباط السياسي أو المذهبي، فيتحوّل لبنان الى ساحة صراع محاور ومشاريع قوى خارجية، كان لها ارتباطات داخلية، وهذا ما حصل منذ إعلان «دولة لبنان الكبير» التي أرادها المستعمر الفرنسي، مقراً له مستعيناً بقادة موارنة حلفاء له، في وقت كان المسلمون مع مسيحيين وطنيين وقوميين يتطلعون الى محيطهم العربي وهكذا نشأ الكيان على ارتهان دائم للخارج، مما شكّل منصة للتدخل في شؤونه، بصناعة رئيس الجمهورية، الى تكوين السلطة في مجلس النواب، واستمالة رؤساء الحكومات، وكل ذلك يجري في ظل غياب وفاق وطني لبناني، لم يعزّزه ما سمّي بالميثاق أو الصيغة عام 1943، أن يتخلى طرفا الصراع عليه من الموارنة والسّنّة، عن ارتباطاتهما الخارجية، وإنجاز حياد إيجابي، لم يحمِ لبنان بعد أن اغتصبت إسرائيل فلسطين وشرّدت شعبها، وكان نصيب لبنان استقبال آلاف النازحين الفلسطينيين الذين تحوّلوا من الإقامة المؤقتة الى الدائمة وربما التوطين، وأدّى ذلك الى اختلال في الوضع الداخلي اللبناني، عبر الإنقسام حول القضية الفلسطينية والكفاح المسلّح من الأرض اللبنانية، وأنتج هذا الخلاف حربا أهلية، أعادت من جديد طرح موضوع صيغة الحكم والمشاركة الإسلامية فيه، أمام نفوذ «المارونية السياسية» المتمثلة بصلاحيات رئيس الجمهورية الذي نظمها فيما بعد إتفاق الطائف، لجهة تحديدها بما يتعلّق بتسمية رئيس الحكومة فألزمه بإستشارات نيابية، كما قلّص من حدود نشره المراسيم الى حل مجلس النواب.
وبعد حوالي ربع قرن على إتفاق الطائف الذي لم يطبق، ولم يتم تنفيذ إصلاحات سياسية فيه، ترمم النظام السياسي، فإن إنتخابات رئاسة الجمهورية التي قد تشهد شغوراً فيها، إذا لم يتم الإتفاق على رئيس جديد، لن تكون صناعة لبنانية على ما يبدو من تطور العملية الإنتخابية، إلا بتدخل خارجي، كما في كل إستحقاق رئاسي، فإن البحث قد يخرج عن إسم الرئيس الى تكوين الجمهورية، لأن الأزمة عادت الى البدايات وهي حول المشاركة في النظام السياسي الذي لم يتمكن اللبنانيون من إنجاز أهم وأبرز إصلاح اتفق عليه في الطائف، وهو إلغاء الطائفية وإسقاط المادة 95 من الدستور، التي تعتمدها كحالة مؤقتة، وأن رفض الولوج بالحوار من خلال هيئة وطنية نص عليها الدستور، فإن لبنان متّجه نحو إعادة بناء الجمهورية الثالثة، بعد أن حصلت تطورات قدمت الشيعية السياسية على أنها مكوّن أساسي من النظام، والتي تبحث عن صيغة دستورية لها فيه، حيث الحديث عن مؤتمر تأسيسي طرحه أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، ووافقه عليه العماد ميشال عون وقوى سياسية اخرى وعقد اجتماعي اقترحه البطريرك الماروني بشارة الراعي، ورفض من الطائفة السّنّيّة المس بإتفاق الطائف الذي حصّن موقع رئاسة الحكومة، الى مطالبة النائب وليد جنبلاط بمجلس شيوخ لن يلتئم إذا لم تلغَ الطائفية السياسية، التي يعارضها المسيحيون التي قد تسلبهم رئاسة الجمهورية، وتضعف وجودهم في مؤسسات الدولة.
إنه النظام الطائفي من جديد يطل بأزمته التي كلما طال الوقت بعدم إصلاحه، فإن البلاد متجهة نحو الإنفجار السياسي والدستوري والأمني، إذ أن المسيحيين باتوا يندفعون نحو التقوقع عبر طرح قانون إنتخاب طائفي على غرار المشروع الأرثوذكسي، ويطالبون برئيس جمهورية قوي يمثّلهم، فيرد السّنّة عليهم، بأنهم سيعيدون النظر بموضوع المناصفة، في الوقت الذي يطالب الشيعة المشاركة بالقرار، وقد مارسوا ذلك عبر ما سمّي بـ«الترويكا» من خلال حضور رئيس مجلس النواب اجتماعات رئيس الجمهورية والحكومة، أو عبر الثلث المعطّل في الحكومة، ويقف الدروز في الوسط، حيث يخافون من الصراع السّنّي-الشيعي وتأثيره عليهم.
إن عدم إنتخاب رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري، سيفتح الباب للسؤال عن ماهية الأزمة، هل هي الرئيس أم الجمهورية التي يفجرها نظام سياسي تتصارع الطوائف على المشاركة فيه وفق ما يمكن أن تقضمه في السلطة من مغانم ومكاسب، وأسباب كل ذلك الطائفية السياسية، التي هي علّة لبنان، وكل طائفة تشكو من الحرمان والغبن والإحباط وعدم المشاركة وغياب التمثيل.
فهل تولد الجمهورية الثالثة على نار هادئة وتوافق وطني، أم أنها تولد من أزمة قد تنفجر في كل لحظة، مع تفاقم الخطاب المذهبي، وتداخل الأزمات الخارجية مع الداخل اللبناني، لاسيما الأزمة السورية، إذ أن الجمهورية الأولى قامت بعد صراع مع الإستعمار الفرنسي، والثانية بعد حرب أهلية، فكيف ستولد الثالثة، وقد انعقد لها مؤتمر قبل سنوات في «سان كلو»؟
Leave a Reply