بيروت – كمال ذبيان
حصل ما كان متوقعاً سياسياً ودستورياً، أن رئاسة الجمهورية تتّجه الى الشغور، للمرة الثالثة خلال أكثر من ربع قرن، إذ حصل الشغور الأول في نهاية ولاية الرئيس أمين الجميّل في العام 1988، عندما كان لبنان مازال في حرب أهلية، وإنقسام سياسي وطائفي وجغرافي، إذ لم يتّفق اللبنانيون على إسم مرشح يجمعهم ويعيد الوحدة إليهم، فكان الإتفاق السوري-الأميركي (الرئيس الأسد مع الموفد الأميركي روبرت مورفي على إسم النائب مخايل الضاهر، الذي واجهه المسيحيون عموماً والموارنة خصوصاً بالرفض، فكان الرد الأميركي «الضاهر أو الفوضى»، وهذا ما حصل، وانتهى عهد الجميّل ولم يخلفه أحد في القصر الجمهوري، إلا حكومة عسكرية برئاسة العماد ميشال عون، فقدت نصفها المسلم، وانقسم لبنان بين حكومتين عسكرية برئاسة عون، وأخرى سياسية كانت قائمة برئاسة سليم الحص، التي كانت تقاطع رئيس الجمهورية الذي حاول أن يلعب لعبة الفراغ بالتمديد له، لكن حلمه تبخّر، وكما بدأ رئاسته بالحرب والإنقسام، سلّمها للمؤسسة العسكرية مثلما تسلّمها، واستمرت المعارك العسكرية التي بدأها العماد عون بحرب أسماها «التحرير» ضد الوجود العسكري السوري، واستمرّت مع حرب أخرى سمّيت «حرب الإلغاء» بين الجيش الذي كان يأتمر به، و«القوات اللبنانية»، ولمن تكون الإمرة في المناطق الشرقية، للميليشيات أو للشرعية التي يمثّلها عون، الذي كان يصر على أنه سيبقى في قصر بعبدا لينتخب هو رئيساً للجمهورية، ولم يرضخ للتسوية الدولية-الإقليمية التي أنتجت إتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، وتوصّل الى «إصلاحات» للنظام السياسي، فتمرّد رئيس الحكومة العسكرية على هذه التسوية التي حاول الداعون لها، إدخاله فيها، إلا أن الذين كانوا خارجها من فرنسا دولياً والعراق عربياً برئاسة صدام حسين، حاولوا تعطيلها، مما أطال من عمر الحرب سنة إضافية، ولم تنتهِ إلا في 13 تشرين الأول 1990، عندما أنهت عملية عسكرية التمرّد، وأعادت القصر الجمهوري الى الشرعية الدستورية، فحلّ فيه الرئيس الياس الهراوي الذي إتّخذ له مقراً مؤقتاً في مبنى في الرملة البيضاء، حيث بدأ عهده بحل الميليشيات، وإعادة توحيد المؤسسات ومنها المؤسسة العسكرية بقيادة العماد إميل لحود، التي باتت نموذجاً لإستعادة الوحدة الوطنية، وركّزت على عقدنة الجيش بمواجهة العدو الإسرائيلي، وإسقاط مقولة «قوة لبنان في ضعفه»، وظهرت ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» التي أنجزت التحرير على مراحل بإنسحاب قوات الإحتلال الإسرائيلي، الى أن حصل كاملاً قبل 14 عاماً في 25 أيار (مايو) من العام 2000، والتي صمدت بوجهه أثناء العدوان الإسرائيلي في تموز (يوليو) 2006، وانتهت بهزيمة الجيش الصهيوني «الذي لا يُقهر».
الشغور الثاني حصل في نهاية ولاية الرئيس إميل لحود الممدّد له ثلاث سنوات، إذ ترك منصبه على إنقسام سياسي وطائفي ما بين 8 و14 آذار، وعلى وقع حرب أهلية باردة، بدأت مع مسلسل الإغتيالات الذي بدأ في جريمة قتل الرئيس رفيق الحريري، التي حصلت مع التطورات التي نتجت عن الإحتلال الأميركي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين، وما تبعه من تهديد أميركي لسوريا بإسقاط نظامها إذا لم تستجب لشروط واشنطن، وهي خروجها من محور المقاومة وفك ارتباطها بإيران لما تمثّله من وزن إقليمي، وقد سعت أميركا مع حلفائها في دول الخليج، الى أن تعوّض عن خسارتها في العراق لصالح إيران، في سوريا ولبنان، وقد تمّ التعبير عن ذلك بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي طالب سوريا بسحب قواتها من لبنان، ونزع سلاح المقاومة، وقد تمّ الرد عليه بالتمديد للرئيس لحود، لحماية المقاومة وعمقها الإستراتيجي سوريا، فحصل اغتيال الحريري في لحظة صراع إقليمي-دولي، على دور لبنان في مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه الرئيس الأميركي جورج بوش.
كانت السنوات الثلاث من التمديد للرئيس لحود، عاصفة ودامية، وكان متوقعاً أن ولايته ستنتهي الى شغور في موقع رئاسة الجمهورية، في ظل الإنقسام السياسي والتوترات الأمنية المتنقلة، ولم يتمكّن مجلس النواب من الإنعقاد لإنتخاب رئيس جديد، إلا بتدخل خارجي وتسوية إقليمية- دولية، التي ترجمت في إتفاق الدوحة الذي أنهى الإقتتال المتنقل بين اللبنانيين وسلبيات أحداث 7 أيار 2008، وجرى التوافق على رئيس جمهورية لا يمثّل الإنقسام السياسي الداخلي، فكان خيار قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي جاء إنتخابه بقرار أميركي-مصري-قطري-سعودي-سوري، وهو المشهد نفسه الذي حصل بعد اتفاق الطائف الذي كان تسوية خارجية، أنتجت وقف الحرب وإنتخاب رئيس جمهورية، فوقع الخيار على رينيه معوّض الذي اغتيل بعد أسبوعين من إنتخابه، لتصل رئاسة الجمهورية الى الياس الهراوي الذي كان وسطياً من كتلة النواب الموارنة المستقلين، بعد استنكاف النائب بيار الحلو عن قبول المنصب، وهم كانوا من خارج الأحزاب أو الميليشيات المسيحية، بل من الوسطيين.
ويختم الرئيس ميشال سليمان ولايته، ولن يسلّم قصر بعبدا لمن سيخلفه وهذا ما حصل معه، فهو دخل إليه وكان شاغراً من رئيس للجمهورية، لأن أيا من «8» و«14 آذار»، لا يستطيع تأمين وصول مرشح منهما، فلا رئيس حزب «القوات اللبنانية»، تمكّن من جمع تأييد له خارج حلفائه في فريقه السياسي، ولا العماد ميشال عون المرشح غير المعلن لـ«8 آذار نجح في إستمالة أو جذب «تيار المستقبل» لتأييده، وهو ما أبقى جلسات مجلس النواب خارج النصاب القانوني، الى أن يتم التوافق على مرشح غير استفزازي كما يصف فريق «8 آذار» جعجع، ولا مرشح لا يمثل الوفاق كما يعلن فريق «14 آذار» عن عون، بما فيه «تيار المستقبل» الذي حاور عون رئيسه سعد الحريري، لكنهما لم يتوصلا الى اتفاق يقضي بأن يتشاركا في سلطة يكون فيها الجنرال عون رئيسا للجمهورية والحريري رئيسا للحكومة.
فالخلاف حول إسم المرشّح، عطّل حصول إنتخابات رئاسة الجمهورية بموعدها الدستوري، وأوقعها في الشغور الذي يتوقع له أن يطول إذا لم يحصل تدخل خارجي كما كان دائما وانتظار ما قد يسفر عنه اللقاء السعودي الإيراني المنتظر بعد دعوة وزير الخارجية السعودية نظيره الإيراني لزيارة المملكة، بعدما فقد اللبنانيون قدرتهم على انتقاء رئيس للجمهورية، لأن الخلاف يتعدى الأسماء الى المشاريع السياسية والتحالفات الخارجية والإرتباطات بمحاور عربية ودولية، وهذا ما ربط الإستحقاق الرئاسي بالتطورات الخارجية، التي تبدأ من الإنتخابات المصرية، ونتائج الإنتخابات العراقية، مروراً بالإنتخابات الرئاسية السورية، وصولاً الى ما سيصدر عن اجتماعات الدول الست مع إيران حول برنامجها النووي، الى الأزمة المتفاقمة في أوكرانيا، وهو ما سيضع رئاسة الجمهورية على لائحة الإنتظار، ريثما تنجلي صورة ما يجري في الخارج، حتى يتفرغ للبنان الذي بشّر الموفد الدولي لتطبيق القرار 1559 تيري رود لارسن، أن عدم إنجاز إنتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان، سيعرّضه الى اهتزازات سياسية وأمنية، وهو ما يتخوّف منه عدد من القادة اللبنانيين، وسفراء دول، وباتوا يحذّرون من أن التعطيل والفراغ لن يتوقف عند رئاسة الجمهورية، بل سيطال الحكومة التي وُلدت من رحم تفاهم خارجي، قد يطيح بها عدم التوافق على رئاسة الجمهورية، بحيث يدخل لبنان في شغور رئاسي، وحكومة تصريف أعمال لها ولرئاسة الجمهورية، وقد بدأ النقاش الدستوري والقانوني، حول حدود صلاحياتها، إضافة الى كلام مسيحي سياسي وديني، عن تأثير عدم وجود رئيس للجمهورية على الميثاقية والممارسة الدستورية الصحيحة، مع تحميل القادة الموارنة المسؤولية عن عدم اتفاقهم على مرشّح، وهو ما يحصل في يد مَن يريد، اعادة بناء هيكل جديد قائم على غير النظام الحالي، وإعادة تأسيس جديد للجمهورية والدولة، وهو ما أيّدته أطراف سياسية ورفضته أخرى، لأن المرحلة لا تسمح الدخول في النفق المظلم.
فالشغور الثالث لرئاسة الجمهورية، يكشف كم هو الصراع الماروني عليها، وهو ما يفقدها دورها وهيبتها، ويضعها في أيدي آخرين يتلاعبون بها في الداخل والخارج، وقد يفقدوها إذا ما استمرّ شعار «كل ماروني مرشح لرئاسة الجمهورية»، وهو طموح مشروع، لكن آليات الوصول أو الحصول عليها، مرهونة بنظام طائفي، منتج من قانون إنتخاب طائفي الذي يفرز كتلاً طائفية، تضع رئاسة الجمهورية كما رئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة في لعبة التوازنات والتجاذبات الطائفية والمذهبية، حيث تشعر كل طائفة أنها غير ممثلة، أو محبطة، أو محرومة، أو مغبونة، أو خارج المشاركة، وكل ذلك نتاج الطائفية السياسية التي أوصى إتفاق الطائف بإلغائها، لكن لم يجرؤ أحد من الطبقة السياسية، وزعماء الطوائف على فعل ذلك، لأن الدولة المدنية، أو النظام الفارغ من الطائفية السياسية، لا يعيد إنتاج سياسيين ونواب كانوا ومازالوا على قيد الحياة السياسية يتغذون على الطائفية السياسية…
Leave a Reply