بقلم: فاطمة الزين هاشم
يواجه الإنسانُ أحياناً موقفاً يجعله أمام لحظةٍ حاسمة تغيّر نمط حياته وبيئته بالكامل، ويقلبها رأساً على عقب، فيجد نفسه وقد تغيّر كلُّ شيءٍ من حوله، البلد، العادات، التقاليد، ونوع وهيئات وسلوك البشر المحيطين به، ذكّرتني بذلك ابنتي ونحن جالستين على مائدة العشاء، إذ أخبرتني بأنّ إحدى صديقاتها قالت لها أنّها تقرأ ما أكتب، مستخلصةً أنّ ظاهرة المعاناة تطغى على الكتابة، وهي تمسّ شرائح واسعة من المجتمع فيشعرون أنّها تلامسهم، خصوصاً ما يتعلّق منها بالمآسي، الأمر الذي دعاها إلى المطالبة في التطرّق إلى الجانب الآخر من وجه الحياة، ألا وهو الكوميدي منه.
فجأةً أعادتني الفكرةُ إلى يوم التخرّج من مدرسة التمريض في بيروت، حيث حضر مسؤول من السفارة السعوديّة، وطلب من المديرة أن تفاتحنا بعرض العمل علينا في بلاده، وعلى الفور وافقت بضعة خرّيجات كنت من ضمنهن، فتمّ إمضاء العقود في المدرسة، لتعقب ذلك رحلتنا إلى الرياض، نزلنا في سكن الممرّضات، وعند الصباح أخذنا سائقٌ مكلّف بذلك إلى وزارة الصحّة، كي يتم توزيعنا على مستشفيات المملكة، فأنزلنا على مبعدة عشرات الأمتار من مدخل الوزارة، وإذا برجل يقطع الطريق علينا، يرتدي دشداشة جرباء ذات لون كالح يعجز كلّ منجّمي العالم أو رسّاميه عن تحديد لونها، عدا عن كثرة الأوساخ والبقع والدبقات المنتشرة فيها، كما كانت قصيرة، بحيث تخيّلنا لقصرها الواضح أنّه يجاري موضة تلك الأيّام «الميني جوب»، أو الإقتصاد بالقماش، أو ليعرض سيقانه على بشاعتها، و«النيّة بما نوى» كان الرجل ممّن يطلقون عليهم تسمية «المطوّع». نظرنا إليه لنستطلع الأمر، فإذا به يضع إحدى يديه على لحيته الشعثاء الغريبة الشكل، يخمّن الناظر إليها أنّه لم يغسلها أو يرتّبها منذ سنوات وليست أيّام، وهو بحاجبيه الكثيفتين المنفّرتين لكثافة نتوءاتهما كاستطالتي كومتين نافرتين من أشواك، يلوّح بعصاه المثبّتة بقبضة يده الأخرى ويتوعّدنا بالضرب والإهانة، فأخذ يشتمنا ويزمجر بالقول: «لعنة الله عليكم أيّها الشوام، فضحتونا قدّام الأجانب»، كلّ ذلك لأنّنا لم نرتد الحجاب والعباءة السوداء، أمّا الشوام فكان يقصد بهم اللبنانيّين والسوريّين، يظهر أنّه قد عاش العصر الذي كان يطلق عليه اسم بلاد الشام في الجغرافيا.
وإزاء هذا الموقف المهين، هرعنا هرباً إلى أحد المحلّات القريبة خوفاً من عصاه التي لو هوت على ساق أيٍّ منّا لكانت كافية لإصابتها بالشلل، تأثّر صاحب المحل وأغلق الباب من الداخل ليحمينا من ذلك الوحش البشري، ومن حسن الحظّ أنّ المحل مختصّ ببيع الملبوسات النسائيّة، فألبسنا العباءة السوداء وبرقعنا بغطاء الرأس والوجه، ورافقنا إلى باب الوزارة، قطعنا المسافة الفاصلة بين المحل وبين الوزارة وسط ضحكاتنا المتواصلة، حيث واحدة تقع على وجهها، والأخرى على ظهرها، وثالثة على جنبها مستقبلةً الأرض بكوعها، بسبب طول أذيال العباءة والتفافها تحت الكعب العالي، يعضدها غطاء الوجه الذي يحجب كثيراً من الرؤية، كانت ساعة من الضحك المتواصل من مشاهد بعضنا البعض، وما إن وصلنا إلى الوزارة حتّى كانت كلّ واحدة منّا مصابة بجرح في ركبتها أو وجهها أو كوعها، حقّاً كان منظرنا الغريب يستدعي الضحك منّا أكثر من استدعائه للبكاء، لكن ليس على غرار «رُبّ ضارّةٍ نافعة» على أيّة حال.
تمّ توزيعنا وحُدِّد مكان عملي أنا وصديقتي نجوى، في المستشفى المركزي بالرياض، عملنا معاً، وسكنّا بغرفةٍ واحدة، وكان يُسمح لنا بالخروج يوم الجمعة فقط، وعلينا أن نبلّغ الشرطي حارس البوّابة، بتحديد المكان الذي ننوي الذهاب إليه كما تحديد ساعة المغادرة والعودة، كنّا في خضمّ مجريات العمل تعرّفنا إلى زميلةٍ تعمل معنا هي وزوجها تدعى نوال، وفي إحدى المرّات دعتنا أنا ونجوى لتناول طعام الغداء في بيتهما القريب من المستشفى، طلبنا الإذن من مسؤولة السكن التي بدورها وافقت على الفور لأنّها تعرف زميلتنا المضيِّفة. وعند خروجنا من باب المستشفى سألنا الشرطيّ الحارس: «إلى أين؟» فقلنا له: «إلى السوق، للتبضع وتناول الآيس كريم أي البوضة»، وبعد أن قضّينا وقتاً ممتعاً بعد تناول الغداء، أصرّت زميلتنا نوال على أن توصلنا هي وزوجها للسكن، ولدى دخولنا من باب المستشفى قال الشرطيّ لنوال وزوجها: «هل صادفتماهما في السوق؟ هذا لطفٌ منكما إذ أوصلتماهما إلى هنا»، فردّت نوال ببراءة: «كانتا في بيتنا على الغداء»، وهنا وقعت الكارثة حين اتّصل الشرطيّ بمدير المستشفى واشتكانا له، فكانت العقوبة قد قضت بحرماننا من الخروج لمدّة ثلاثة أسابيع متتالية، العقوبة التي طالتنا فأنستنا طعم ذلك الغداء الشهيّ.
Leave a Reply