بيروت – كمال ذبيان
«ما كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن»، هذا ما قاله الشاعر، وهذا ما حصل مع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان المنتهية ولايته، والذي كان يتمنّى التمديد، ولم يدركه وهو ما سعى إليه كل رئيس وصل الى القصر الجمهوري، حيث كان ومنذ يومه الأول فيه، يعمل للتجديد أو التمديد، وإذا تأخر هو، فهناك مَن يذكره بأن ست سنوات في الرئاسة ليست كافية لتحقيق ما وعد به في خطاب القسم، أو ما كان يطمح إليه ويعلنه من مواقف تتعلق بالحفاظ على الدستور، وتحقيق دولة المؤسسات، والخروج من دولة المزرعة، والسهر على تطبيق القوانين، ومحاربة الفساد، ومنع الرشوة، ووقف صرف النفوذ السياسي والأمني والطائفي في مؤسسات الدولة للإثراء غير المشروع، ومكافحة كل أنواع التهرب من دفع الضريبة، والوصول بلبنان الى مصاف الدول التي تمارس فيها الديمقراطية الحقيقية، بتداول السلطة من خلال تحقيق إصلاح سياسي في النظام وعاموده الفقري قانون إنتخابات خارج القيد الطائفي ويعتمد النسبية ولبنان دائرة واحدة، أو أقل منه بتوزيع عادل للدوائر على أساس المحافظة.
الرئيس ميشال سليمان |
هذه الأحلام والطموحات والعبارات الطنانة والرنانة، واللغة الإنشائية البليغة في أكثر الأحيان، والمدبجة بما يدغدغ قلوب وعقول اللبنانيين، فإنها لم تتحول الى أفعال ولا الى إنتقال جدي للبنان من دولة المزرعة والمحسوبية والزبائنية والمحاصصة السياسية والطائفية، الى دولة القانون والمؤسسات، ولم يأتِ عهد وقام بتطبيق ما تعهد ووعد به رئيسه، إلا بإستثناء بعض الإنجازات القليلة التي تذكر للرئيس فؤاد شهاب الذي أنشأ مؤسسات، كمجلس الخدمة المدنية، وهيئات رقابية ومحاسبة، وتحوّل الى إنماء المناطق الريفية، لكن طغى الأمن في عهده على المؤسسات وأطاح بها ليس ككيانات بقيت موجودة، بل كمضمون وهدف ورؤية لتحقيق إصلاحات إدارية، أطاح بها أيضاً السياسيون «أكلة الجبنة» كما كان يصفهم الرئيس شهاب.
وينتهي عهد الرئيس سليمان، ولم يحالفه الحظ بالتمديد الذي كان يؤكّد ويشدّد أنه يرفضه ولم يطلبه، وقد حمّل مساعدين ومستشارين له، وبعض السياسيين أنهم هم كانوا يطرحونه، وأحياناً دون علمه، لكن في الكواليس هناك مَن تحدّث مؤكّداً، أن رئيس الجمهورية جسّ نبض دول خارجية حول التمديد له في فرنسا والسعودية وقطر، ولم يحصل على جواب نهائي، فكان لا بدّ من أن يقوم النائب هادي حبيش بفذلكة دستورية للمادة 62 من الدستور حول ولاية رئيس الجمهورية، بأن لا تحدد بمهلة ويبقى في منصبه حتى إنتخاب خلف له، لمنع حصول شغور في المنصب، وللحفاظ على الموقع الدستوري للموارنة خصوصاً والمسيحيين عموماً، ولكي لا يحصل خللٌ في الميثاق الوطني وقد عمل البطريرك بشارة الراعي على تسويق هذا الاقتراح الذي لم يلق التجاوب من الكتل النيابية.
فالخيبة التي تلقاها الرئيس سليمان من عدم التمديد، أحرجته بعد ان أسقط عنه صفة الرئيس التوافقي، الذي بدأ عهده به وانهاه وهو طرف سياسي منحاز الى الدول التي لا تؤيّد المقاومة في لبنان التي أسقطها سليمان من كل خطاباته ومواقفه منذ أكثر من عامين الى أن وصف ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» بـ«اللغة الخشبية» التي لاقت رداً سلبياً من «حزب الله» وحلفائه، وصنفوه في خانة «14 آذار»، بالرغم من محاولة النائب وليد جنبلاط إضفاء طابع «الوسطية» عليه، كما يصف موقعه هو في هذه المرحلة بأنه خارج إصطفافات «8» و«14 آذار»، إلا أن توصيف جنبلاط لنفسه ولسليمان بـ«الوسطية» أو بوصف الأخير للأول، بأنه «بيضة القبان» لما تمثله المختارة سياسياً، ومع بيت الدين ويقصد مقر رئاسة الجمهورية الصيفي، ليصبحا بيضتين دون أن يذكر هل هما كما في جسم الإنسان، أم في موقع الميزان، بحيث يختلف الموقعان بالممارسة والأداء.
فالرئيس سليمان ينهي عهده طرفاً وليس وسطياً أو على مسافة واحدة من الجميع سياسياً، ولا هو حَكَماً كما أراده الدستور، وأن ما فرض عليه تغيير موقعه، هو أنه يطمح الى أن يكون مرجعية سياسية، لا ينكر أنه يعمل لها لكن من موقع وطني، إذ هو يترك رئاسة الجمهورية وأكثر من نصف اللبنانيين يخالفونه الرأي، بعد أن تخلى عن قناعات كان يؤمن بها كما كان يقدم نفسه، بأنه مع المقاومة وحليف لسوريا وصديق للرئيس بشار الأسد، وقد أصبح خارج هذا الموقع، لينال رضى مَن هم في المكان الضد لخيارات مثلها سليمان في أثناء قيادته للجيش وبعد إنتخابه رئيساً للجمهورية ليصبح أقرب سياسياً من «14 اذار».
ويودّع الرئيس سليمان قصر بعبدا، وقد تحرّر من عقدة التمديد، كما يقول لزواره والمقربين منه، وسيصبح بعد 25 أيار رئيساً سابقاً للجمهورية، يعود الى عائلته، اولكتابة مذكراته كما يفعل عادة الرؤساء والزعماء والقادة، وقد لا يلاقي الكثير مما سيكتبه عن السنوات الست التي قضاها في الرئاسة الأولى، وسيذكر أن مَن انتخبه لها، هي التسوية الإقليمية الدولية التي نضجت في الدوحة، ووافقت عليها أميركا وفرنسا والسعودية وقطر وسوريا وإيران ومصر، وفرضها الإنتصار العسكري الذي حققته المقاومة في تصديها للعدو الإسرائيلي أثناء حربه على لبنان صيف 2006، وأدى الى تغيير الموازين الخارجية وتحديداً الأميركية والأوروبية والعربية لصالح محور المقاومة، وأسقط الحصار عن سوريا، واضطر «حزب الله» أن يخوض في الداخل اللبناني معركة إستعادة التوازن الذي فرّطت به قوى «14 آذار»، التي قررت أن تنزع سلاح المقاومة العسكري والهاتفي (الإتصالات)، فكان يوم 7 أيار عام 2008 الذي أنهى الخلل الداخلي، وأتى بميشال سليمان رئيساً للجمهورية من موقع الحليف للمقاومة والصديق لسوريا والمرغوب عربياً وأميركياً، ومرشّح يدير أزمة و طاولة حوار، وهذا ما فعله، وهو ما سيكتب عنه كإنجاز تحقق في عهده، وقد ورث هذه الطاولة عن الرئيس نبيه برّي الذي أقامها في مجلس النواب، لعدم تمكّن وضعها في قصر بعبدا، بسبب رفض «14 آذار» الإعتراف بالتمديد للرئيس إميل لحود، وقيادتها حملة «فل» لإخراجه من القصر الجمهوري، وقد تصدّى لها ووقف بوجهها فإنكفأت وتلاشت وأكمل ولايته حتى الدقيقة الأخيرة فيه محافظاً على الشرعية، وغادره وبقي المنصب شاغراً الى أن ملأه الرئيس سليمان، الذي لم يحقق إنجازات يمكن أن يوصف بها عهده، إذ هو وكما كان متوقعاً له، أنه سيدير أزمة، ولن يكون عهده أكثر مما كان عليه الرئيس إلياس سركيس، وأن مَن اختاره لهذا المنصب من دول، كان يعرف أن لبنان الواقع على خط الزلازل السياسية والأمنية والإقليمية والدولية، ليس بحاجة إلا الى رئيس لتمرير الوقت الإقليمي والدولي في ظل الصراعات في المنطقة، وقد زاد من تعقيداتها نشوب ما سمّي «ثورات عربية»، وكان قد مرّ على عهد سليمان نصفه الذي أدار فيه حواراً بين القوى الفاعلة والمؤثرة حول «الإستراتيجية الوطنية الدفاعية»، والتي بقيت النقاشات حول الأوراق المقدمة معلقة، لأن الخلاف عميق بين اللبنانيين حول موضوع الصراع العربي- الإسرائيلي وموقع لبنان منه، الى مسألة العلاقة مع سوريا، كما الى الموقف من المحاور الخارجية وصراعاتها، فكان «إعلان بعبدا» الذي يترجم الحياد الإيجابي للبنان، هو الإنجاز الذي يعتز به سليمان أنه حققه نظرياً، ولكنه لم يمارسه اللبنانيون ميدانياً، إذ هم إنخرطوا في الصراع داخل سوريا، كما دخلوا في لعبة المحاور، فكان منهم مَن هو مع محور المقاومة والممانعة (إيران-سوريا-«حزب الله»-المقاومة الفلسطينية)، ومنهم مَن كان مع محور أميركا-الخليج، الذي حمل أصحابه من قوى «14 آذار»، شعاراً أنهم مع «العروبة» ضد «الفرس».
فإعلان بعبدا، هو ما يمكن أن يكون أبرز إنجازات سليمان الذي لم يتحقق أي إصلاح سياسي في عهده، وقد حاول دون أن ينجح في اصدار قانون إنتخاب على أساس النسبية، لكن قوى سياسية أفشلته، رغم أنه تمكّن من وضع مشروع اللامركزية الإدارية، وهو من الإصلاحات الأساسية في إتفاق الطائف الذي عمل الرئيس سليمان وحاول وضع بعض بنوده موضع التنفيذ لإصلاح النظام السياسي الذي كان يطمح أن يخرجه من الطائفية بالتدرج.
وما حققه الرئيس سليمان في عهده، أنه أمّن للجيش التسليح، كما ساهم في إبقاء لبنان على الخريطة الدولية والإقليمية والعربية، وأن تتشكل مجموعة دعم له، لجهة تأمين غطاء دولي وإقليمي للحفاظ على الإستقرار فيه، حيث نجح الجيش في محاربة الإرهاب، كما في الحد من إنتقال الحريق السوري الى الداخل اللبناني، بالرغم من حصول توترات أمنية، وأعمال إرهابية تفجيرية من قوى تكفيرية التي كانت تربطها بمشاركة «حزب الله» في القتال الى جانب النظام السوري.
إلا أن ما أُخذ على سليمان، أنه دخل في محاصصات في الحكومة كما في الوظائف ولم يخالف من سبقه، وكان يحاول أن يقيم حوله كتلة نيابية، فلم يفلح، وهو لجأ الى تكوين حالة سياسية حول «إعلان بعبدا» لتكون نواة لتيار سياسي، يحجز من خلاله موقعاً له في الحياة السياسية التي يعشعش فيها الفساد كما في مؤسسات الدولة، ولم تصدر عن الرئيس سليمان مواقف متشدّدة للقضاء على الفساد، لأنها ستطال مَن هم أصدقاء أو حلفاء له.
يخرج سليمان من قصر بعبدا، وقد تركه فارغاً، ووراءه طاولة حوار، كتب عليها، «إعلان بعبدا» مع وقف التنفيذ…
Leave a Reply