بقلم: فاطمة الزين هاشم
ربّما يتخيّل البعض بأنّ الإعتراف بالخطأ يُعدّ مثلبةً، أو انتقاصاً من الشخصيّة، في حين أنّ الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، إذ يستتبعها الصفح الجميل الذي يعيد إلى العلاقات توازنها، مثلما تستعيد الحياة عافيتها من حيث عودتها لمجراها الطبيعيّ، ولكي نكون قريبين من الواقع، فقد ثبت في تجربة إحدى صديقاتي صواب هذه الحقيقة، وإليكم اختصارها:
ولدت لأهلٍ رفيعي التهذيب، كرماء الأنفس، وترعرعت في كنف تربيتهم، مطواعة لا تخالف توجيهاتهم، ولا تعصي التعليمات والنصائح التي يسدونها إليها، أدخلوها التعليم، حتّى تخرّجت، فحصلت على وظيفة مرموقة لاءمت اختصاصها في علم الأحياء، ولأنّ المرء يطمح دائماً إلى المرتّب الأعلى، فقد عرضت عليها زميلة لها، السفر إلى حيث البلد الذي تعمل فيه، وقدّمت لها المغريات المادّية والمعنويّة، حتّى أقنعتها بذلك، راحت صديقتي بكلّ غبطة، تعرض الموضوع على والدتها، التي بدورها تلقّت الخبر كما لو أنّ صاعقة وقعت عليها، إذ زمجرت بوجهها قائلةً «هل تريدين أن ينبذنا الأهل والجيران والمحيطون بنا من المجتمع؟» فزمّت البنت شفتيها بمزيدٍ من حدّة إطباقهما لتؤكد عزمها على ملازمة الصمت الذي رأت فيه أفصح جواب، فأحياناً يريد أحدنا أن ينطق بالكلمات التي تجيش بصدره، لكنّ الظرف في لحظة معيّنة هو الذي ينوب عنّا بالإجابة، وليس أبلغ من الصمت في مثل هذه الحالة، كما حصل لصاحبتي.
لكنّ والدها حين علمَ بالأمر، شدّ من عزيمتها، ولم يكترث لكلام أحد، حيث بارك لها تلك الخطوة، فالتحقت بعملها الجديد، ولم تواجه صعوبة تذكر، سوى ثقل الوحدة التي سيطرت عليها، بخاصّة إذا حلّ المساء، حيث تتضاءل وتضمحلّ أنوار النهار، لتحلّ محلّها إنارة المصابيح في الشارع، ثمّ تبدأ الهواجس والتساؤلات بالهيجان في أعماق نفسها، فتحسّ وكأنّها إزاء تضارب الأفكار، عاجزة عن تمييز بعضها عن الآخر، فتعقبها معاناة الصراع بين اشتهاء البقاء، وبين تلبية نداء الحنين بالعودة إلى أحضان الأهل والطبيعة الخلّابة للمأوى الأوّل، حتّى إذا داهمها ألم الوحشة الصامت، راحت منكبّة على مواصلة المطالعة، ليكون الكتاب لها خير أنيسٍ وأرقّ جليس.
في إحدى الأماسي، بينما كانت تهمّ بإزاحة الستارة عن النافذة المطلّة على الشارع، تناهت إليها أضواؤه التي مزّقت ظلمة الليل، ليسبقها نظرها إلى واجهة العمارة المقابلة لسكنها، فرأت شابّاً وسيماً جالساً في الشرفة، يدخّن النارجيلة، ونظره مصوّب نحو نافذتها، فابتسم لها وحيّاها من البعد بأدبٍ واحترام، فأعقب ذلك أن التقيا صدفةً مساء اليوم التالي على رصيف العمارة التي تقطنها أثناء عودتها من العمل، وبعد أن ألقى عليها التحيّة، طلب منها التعرّف إليها، فتجاذبا أطراف الحديث، وكم أخذتها الدهشة ساعتها حين أعلمها بأنّه يعمل ضابطاً في أمن ذلك البلد، حيث أنّ ملامحه كانت تدلّ على الوداعة والرقّة والإحساس المرهف، على العكس تماماً ممّا هو متعارف عليه، في أنّ أغلب الضبّاط إن لم يكونوا جميعهم يتّصفون بالغرور، وتطغي على ملامح وجوههم الحدّة والصرامة، ونظرات الخداع الملوّنة، وحين أجابته عن سؤاله حول بلدها، أعلمها قائلاً: «نحن نزور بلادكم باستمرار، وخاصّة مناطقه النائية، ونجد متعةً في رؤية مناطرها الخلّابة السائرة كأنّما إلى الإنقراض».
دعاها إلى تناول العشاء معاً، وحدّدا اليوم التالي موعداً لذلك، لتتكرّر بعدها الدعوات، حتّى أصبحت شبه يوميّة، فأحسّت بأنّها مالت إليه، وبدأت بوادر الحبّ تظهر على محيّاها طافحة من أحاسيسها، دون أن يبادر أيٌّ منهما لمصارحة الآخر، حتّى إذا ضاق بها الحال، انبرت هي بتوجيه السؤال إليه: «هل تجد في حبّي لك عيباً، أو تجد في حبّك لي منقصة؟» فركّز من نظراته لها بلهفةٍ لم يقدر معها على إخفاء لهيب الحبّ، فبادرها قائلاً: «لا أدري من أيّ علوٍّ هبط جمالكِ إلى قربي هنا، فأنت بالنسبة لي وطن ألتجيء إليه» ثمّ طوّقها بذراعيه ليؤكّد لها مدى الحبّ الجارف الذي يكنّه لها، ولم يتركها إلّا وهي في منزل والديه، ليعرّف أفراد عائلته عليها، حتّى حلّت عروسةً بينهم، تلد الطفل وراء الآخر فأصبح لديهما ثلاثة، يَحْبون ويلعبون كما الأزهار تتنقّل في حديقة، لم تمض أيّام العمر الهانئة كثيراً، حتّى داهمته غريزة الغيرة، فأخذ يتصرّف بصبيانيّة، وبطريقة تضايقها من حينٍ لآخر، فتنهمر من عينيها الدموع، دون أن يتحرّك له جفن، ذلك أنّ من ينسى أنّ الله يرى تصرّفاته، ينسى دموع مظلوميه.
حاولتْ أن تزيح الغيرة من قلبه بشتّى الطرق ومختلف الوسائل، لكنّه كان في كلّ مرّة يثور كالمجنون، ثمّ يعود إليها نادماً، وطالباً الغفران، حيث يعترف أمامها بخطئه، فكانت هي تقابله بقلبها الطيّب، وعاطفتها الجيّاشة، وسموّ الخلق، فتصفح عنه، وتحتضنه كأنّ شيئاً لم يحدث، الأمر الذي رسّخ دوام وهناءة علاقتهما الزوجيّة.
ولأنّ الزوجة دائماً، هي الصدر الرحب والحنون، إزاء الزوج حينما يعترف بخطئه، حيث تراه لحظة الإعتراف، يكون قد اعتلى قمّة الشجاعة، وليس انتقاصاً من رجولته أو كرامته، وتلك هي ثمرة الصفح الجميل.
Leave a Reply